موجة كبيرة من الاحباط والتشاؤم والتطير ضربت حتى من لا يشكك في ثوريتهم أحد، دعك من كتلة المجاميع الجماهيرية غير المسيسة التي ليس لها في شؤون السياسة ناقة ولا جمل، ولا تعرف عنها سوى أمور معاشها ومتطلباتها الحياتية اليومية، ان تحسنت فالأمور حسنة والعكس صحيح، وهذه حقيقة لا ينكرها الا مكابر ولا يجب التعامي عنها، فالمشهد الوطني الآن من أي ناحية أتيته لا يسر بل ويحملك مرغماً على الاحباط، وما يفاقم هذه الحالة التشاؤمية أنك لا تلمح بصيص أمل في نهاية نفق الأزمات المتراكبة طبقا عن طبق، يجعلك تؤمل في المستقبل ف(تصبر بس) وتصبر معك الساخطين والمحبطين بأن القادم أحلى، فكل شئ يسير من السئ الى الأسوأ عوضا عن أن يحدث النقيض ولو ببطء، ولعل هذا التدهور والانهيار المتسارع في كافة المناحي، هو ما يوجب طرح السؤال المركزي (لماذا يحدث كل هذا) بعد ثورة عظيمة قدمت فيها تضحيات جسيمة، لابد أن هناك خطأ ما واعوجاج ما في مكان ما لابد من تحديده أولا ثم العكوف على اصلاح الخطأ وتصحيح الاعوجاج، فهل يا ترى وقفت الحكومة وقفة جادة ازاء هذا الحال الذي يسير على عكس عقارب ساعة ثورة ديسمبر الباسلة، وسألت نفسها لماذا يحدث هذا وما هو الخطأ الذي تسبب فيه، المؤكد أن الحكومة لا وقفت ولا سألت نفسها وبالضرورة لم ولن تفعل أي شئ للاصلاح، بدلالة أنها ماتزال عاكفة على خططها وسياساتها التي أفرزت هذا الوضع الذي زاد الأزمات تأزما، مع أن الحكمة تقول اذا حددت لنفسك هدفا ووضعت له خطة، ولكن عند التنفيذ وضح لك أن الخطة لن توصلك الى الهدف المبتغى وأن هناك خطأ ما في الخطة، وجب عليك مراجعة الخطة بما يمكنك من بلوغ الهدف، ولما كانت الخطط والسياسات التي تنتهجها الحكومة على مدى عامين لم تثمر عن شئ سوى مفاقمة الأزمات، يبقى لزاما عليها الاعتراف بذلك والعمل فورا لتصحيح المسار بالعودة الى منصة التأسيس..
ان اكثر ما يزعج في موجة الاحباط الحالية هو ذهاب البعض للقول ان البلاد وبما تشهده اليوم من تقهقر وتراجع مخيف سياسيا وامنيا واقتصاديا، سيضعها على شفا الانهيار والتمزق والتشتت على طريقة ليبيا واليمن والصومال، غير ان ما يعصم من هذا القول المحبط، تلك الكلمات القوية التي حفظتها الذاكرة، لفقيد البلاد الكبير المرحوم محمد إبراهيم نقد السكرتير السابق للحزب الشيوعي السوداني، الفقيد نقد كان قد أجاب على أحد أسئلة زميل صحفي في حوار أجراه معه، ولكني للأسف لا أستحضر الآن تماما سؤال الزميل ويذهب تقديري إلى أنه كان سؤالا استدراجيا، حاول من خلاله الزميل أن ينتزع اعترافا موثقا من الزعيم الشيوعي بأن البلد هشة ولا تحتمل ثورة، غير أنني أكاد أذكر بالحرف إجابة نقد وفحواها أن البلاد تتحمل انقلابا عسكريا وتستحمل انتفاضة، السودان بلد (عضمه قوي، وأي محاولة للقول بأنه لا يحتمل هذه مجرد تبريرات، ليه ما بتستحمل، هي حتستحمل أكثر من الذي تتحمله الآن، أكثر من الحاصل، (يقصد نقد بلاوي الانقاذ).. نعم وألف نعم، ما يزال شعب السودان عضمو قوي، وما يزال السودان البلد (عضمو قوي)، وما يزال شبابه نبيلا وأصيلا، فمع كل المحن والإحن والأزمات التي ضربته في اللحم الحي، وكانت كل هذه البلايا والرزايا التي شهدها في عهد الانقاذ المشؤوم، كفيلة بتفكيك عراه والقضاء على محاسنه وفضائله التي جبل عليها وعرفتها عنه كل الأمم والشعوب وشهدت بها، غير أنه بقي صامدا وراسخا وثابتا يقاوم كل هذه المصائب ويحافظ على إرثه الأخلاقي والقيمي، وطالما ان تفكك البلاد وتشرذمها لم يحدث في ذاك العهد اللئيم، فانه بالضرورة لن يحدث في عهد ثورة الوعي..