قولوا حسنا
محجوب عروة
مِحْنَــة الصّحافة السُّودانية والحُلُول!!
سَبَقَت بلادنا كثيراً من الدول والشعوب في الإصدار الصحفي منذ أكثر من مائة عامٍ، وساهمت صحافتنا في بث الوعي الوطني والاستنارة السياسية والأدبية والثقافية، ثُمّ قامت بدَورٍ مَشهودٍ في استقلال البلاد، وبعد ذلك سَاهمت مع غيرها من مُؤسّسات المُجتمع المدني والنظامي في تطور البلاد، إلا أنّها اليوم وللأسف تخلّفت وتدهورت كثيراً وتعيش أَزمَةً ومِحنةً حَقيقيّةً، وتسير ثم تنتهي إلى ما يشبه الانحسار، بل توقف بعضها تماماً عن الصدور.!
كانت الصحف السودانية في الماضي مُنتشرةً بصُورةٍ واسعةٍ، تشتريها كل فئات المُجتمع من طُلابٍ وعُمّالٍ ومُوظّفين ومهنيين وذوي الدخل المحدود، فهم الذين يُشَكّلُون الغالبية العُظمى في المُجتمع، يشتري معظمهم يومياً أكثر من صحيفةٍ واحدةٍ، فقد كان سعرها في مُتناول الجميع، بجانب القوة الشرائية للجميع قبل الضعف الاقتصادي المُستمر، خَاصّةً في سعر العُملة وبُرُوز ظاهرة التّضخُّم الجامح، ولكن اليوم أصبحت الصحف في مُتناول فئات محدودة أغلبهم من ذوي الدخل الأوسع، وانصرفت الغالبية الى التأجير في أفضل الأحوال أو تركها كُليّةً بسبب ارتفاع أسعارها وضعف المضمون الصحفي، الأمر الذي أضعف من حجم طباعتها الى درجةٍ مُخيفةٍ.!
إنّ وجود صحافة مميّزة مهنيا ما زال أمراً ضرورياً، ولكنها كظاهرةٍ غير حميدة، أنّ أولئك القُرّاء من ذوي الدخل المحدود الذين يُشَكِّلون غالب القُرّاء وظَلُّوا هم يدعمون الصحف، حيث يُشَكِّلون المصدر الأساسي لدخلها المالي عبر الشراء لتُغطِّي الجُزء الأكبر من تَكلفتها يعكس خللاً اجتماعياً واضحاً من حيث أنّ الفقراء وذوي الدخل المحدود هم الذين يَدعمون الصُّحف وليس الأثرياء سواء كانوا أفراداً أو الشركات والمُؤسّسات المالية والتجارية التي يُفترض – كما في دول العالم – هم الذين يجب أن يغطوا جميع تكلفة الإصدار وتُحَقِّق الأرباح لتُمكِّن الصحف من تطوير نفسها مهنياً وفنياً وطباعياً وتنتشر أكثر فيستفيد المُعلن من انتشارها، كما تُقدِّم خدمة صحفية أكثر تَميُّزاً وحتى للعاملين في الصحف، فتجعلهم أكثر استقراراً، نفسياً ومالياً وتطوراً علمياً، فاستقلالاً، فلا يقعوا في المحظور الذي يضعف مهنيتهم وحيدتهم.
في ظل الارتفاع المُستمر في تكلفة الطباعة وعمليّة إصدار الصحيفة من تجهيزٍ فني وأجورٍ ونثرياتٍ مُختلفةٍ، فإنّ الصحف مُهَدّدَة أكثر من أيِّ وقٍت مضى! وعليه إذا أردنا تجاوز محنة الصحافة، فلا بُدّ من حُلُولٍ مُبتكرةٍ والاستفادة من الخبرات السَّابقة في الإصدار الصحفي، فقد ظللت مهموماً دائماً في ذلك، حيث أرى أنّ الاستمرار فقط في زيادة سعر الصحيفة وحتى الإعلان في ظل الركود الاقتصادي أمرٌ خاطيءٌ! فلا بُدّ من حُلُولٍ مُبتكرة لصحافةٍ واسعة الانتشار وقوية مهنياً ومالياً لا مُجرّد الحل السَّهل في زيادة سعر الجريدة وتكرار الطلب من الحكومة بالامتيازات رغم أهمية ذلك، فالحكومة حتى إذا أعفت الصحف من الرسوم ضرائب الأرباح – وهذا مَطلوبٌ حقاً – فلا يكفي ذلك في ظل التدهور المُستمر لقيمة الجنيه وارتفاع باقي تكلفة الإصـــــدار.