حاطب ليل
عبد اللطيف البوني
من الثورة إلى الدولة..
(1)
لا تُوجد قضية في السودان اليوم أهم من مسألة الانتقال من الثورة إلى الدولة.. فالثورة وصلت محطتها الإجرائية النهائية وهي الإطاحة بالنظام الذي قَامت ضِدّه وتبقى بعذ ذلك جَانبها المَوضوعي وهو السّير بالبلاد لِمَا فيه إنقاذها ونماؤها وتطوُّرها وتقدُّمها ورفاهيتها، فهذا الجانب الموضوعي يقتضي خلع عباءة الثورة ولبس عباءة الدولة، ولكن للأسف السَّاعات تجري وتَتَحَوّل إلى أيّامٍ، والأيّام تتحوّل إلى أسابيعَ ونحن مازلنا نتمحرك في مرحلة الثورة ولم نَتقدّم حتى ليلة الأمس نحو الدخول في مرحلة الدولة, غَنِيٌّ عن القول إنّ الفترة الانتقالية التي نَقف على عتبتها الأن ليس المُبتغى النِّهائي، إنّما هي مُجَرّد مرحلة تَمهيديّة غايتها وضع الشّكل النِّهائي لما ستكون عليه الدولة، فنحن حتى الآن ورغم مُرُور الأسابيع لم ندخل المرحلة الانتقاليّة حتى ساعة كتابة هذه السُّطُـور.
(2)
رغم ما قلناه أعلاه، إلا أنّ الأمل ما زال يَحْدُونَا في الخُرُوج من هذه المَرحلة إلى مرحلة بناء الدَّولة، وهذا الأمل يَقُوم على عدّة حيثيات، أهمها أنّه قد تبلور طرفين وهُمَا المجلس العسكري الانتقالي، والطرف الآخر هو قُوى الحُرية والتّغيير، فالمجلس العسكري أصبح طرفاً لأنّه أزاح رأس النظام السّابق وجلس مكانه جلوساً إجرائياً، فأصبح الحاكم بحكم الأمر الواقع.
أما الطرف الثاني وهو قُوى الحُرية والتّغيير، فهو الذي حَرّكَ الشارع ضد النظام السَّابق ليس هذا فحسب، بل حَدَثَ اصطفافٌ قوميٌّ حول الطرفين، فالقُوى الراديكالية الثورية تقف خلف قُوى الحُرية والتّغيير، والقُوى المُحافظة تقف خلف المجلس العسكري، وهذا يعني أنّ النتيجة التي سوف يصلان إليها ستكون مُرضية لمُعظم قطاعات الشعب إن لم نقل كلها بعبارة أوضح، حتى الذين يرون أنّ قُوى الحُرية والتّغيير لا تمثلهم، رموا بثقلهم خلف المجلس العسكري، وحتى ساعة كتابة هذه السطور مساء الاثنين مازال الطرفان يتفاوضان، لا بل مازالا يبثان الأمل بأنّهما سوف يصلان الى اتفاقٍ نهائي ينقل البلاد من الثورة للدولة بأمارة أن ما اتّفقا عليه اتفاقاً كاملاً أكثر بكثير مِمّا تبقى لهما قيد التفاوُض.
(3)
صمّام الأمان في سِكّة السّفر من الثورة إلى الدولة هو الإبقاء على ثنائية التفاوُض مع الاستمرار فيه على طريقة (السّايقة وَاصلة)، فأيِّ إعادة تشكيل لأطراف التّفاوُض سَوف تَرجع بنا إلى المجهول، وأيِّ توقُّفٍ لعملية التّفاوُض سَوف تفضي إلى المجهول والبلاد تَتُوق إلى المَعلوم، فقد أخذت من عدم اليقين ما يكفيها ويزيد، فليَلِتّ الطَرفان ويعجنا مَا شاء لهما من اللّت والعَجن ولكن لا يوقفا عملية التفاوُض بأيِّ حجة من الحجج، فالأمل كبيرٌ في أن يَستشعر كل طرفٍ من الطرفين بأنّه يمثل البلاد كلها، وبالضرورة أن يرتقي الطرفان لهذه المرتبة, مرتبة أنه يمثل السُّودان، وأنّ الحصة وطن، وأنّ الخلاف بينهما مُجرّد اجتهادٌ في اختيار الطريق الإسرع لإنقاذ هذا الوطن، وكلي يقين بأنّ الجميع في السودان يعلم أنّ الكل في مركبٍ واحدةٍ، وأيِّ ثقب سوف يطيح بها في هذا البحر المُتلاطم محليّاً وإقليميّاً ودوليّاً.
ومن قلبي أتمنى أن يصل هذا المقال للقارئ وتكون البلاد قد عبرت من الثورة إلى الدولة، فلتكن هذه الليلة القادمة ساعة كتابة هذا المقال والمُنتهية ساعة قراءته، سر الليالي ببركة رمضان الكريم.. فاللهم أحفظ السُّودان وأهل السُّودان.