خلقت قوات “الدعم السريع” وضعية هجينة أدت إلى نتيجتين: تكريس عسكرة السياسة من خلال السيطرة على أجهزة الدولة، واستمرار العسكر في السلطة ومنع أي فرص للتحول الديمقراطي بالبلاد، وستكون النتيجة منع إمكانية قيام قوات أمنية جمهورية خاضعة للسيطرة المدنية الديمقراطية، فضلًا عن تجذير الزبونية.
كرست قوات الدعم السريع عسكرة السياسة من خلال السيطرة على أجهزة الدولة واستمرار العسكر في السلطة. (روتيرز).
في سياق التطورات السياسية في السودان، منذ الإطاحة بالرئيس السابق، عمر البشير، في أبريل/نيسان 2019، حازت قوات الدعم السريع وموقعها في سياق المشهد العام للفترة الانتقالية اهتمامًا متعاظمًا وكبيرًا، وأثارت -ولا تزال- الكثير من الجدل بشأن مستقبلها أيضًا.
وتصاعد هذا الجدل أكثر فأكثر مع تعاظم نفوذ قائدها، الفريق أول محمد حمدان دقلو المعروف بـ”حميدتي”، والذي يعتبر الرجل الثاني في البلاد حاليًّا؛ إذ يشغل منصب النائب الأول لرئيس مجلس السيادة الانتقالي الذي يرأسه القائد العام لقوات الشعب المسلحة، الفريق أول عبد الفتاح البرهان.
ليس هذا فحسب؛ إذ باتت تطلعات حميدتي إلى السلطة، مستندًا في ذلك إلى قواته وشبكاتها وتحالفاتها المتعددة، تثير مخاوف جدية من وقوع صراع عنيف على السلطة هذه المرة بين المكونات العسكرية؛ حيث تتواتر الأنباء حاليًّا عن تصاعد الخلاف بين الرجلين.
وبناءً على ما تقدم، تتناول هذه الورقة معضلة هذه القوات والتحديات السياسية والأمنية التي تفرضها على المشهد الراهن مع تزايد المخاوف من صراع بين هذه القوات والجيش السوداني.
أولًا: الشراكة العسكرية-المدنية: دور قوات “الدعم السريع”
واجهت الفترة الانتقالية التي تأسست نتيجة التوصل إلى تسوية بين كل من قوى الحرية والتغيير، والمكوِّن العسكري أو “اللجنة الأمنية” أو “المجلس العسكري الانتقالي” لاحقًا، اللذين كانا قد سيطرا على مقاليد الأمور في أعقاب الإطاحة بالرئيس السابق، عمر البشير، في التاسع من أبريل/نيسان 2019، العديد من المصاعب؛ كان من أخطرها تلك التي ترتبط بتعقيدات إدارة العلاقات العسكرية-المدنية خلال هذه المرحلة.
ونتيجة لذلك، أغرى ضعف المكوِّن المدني شركاءه من المكوِّن العسكري بالعمل تدريجيًّا للسيطرة التامة على السلطة، والإطاحة بالحكومة الانتقالية برئاسة عبد الله حمدوك في انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021.
لاحقًا، أدَّى التحالف الوثيق بين قادة المكون العسكري، الذي يشمل القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع وقوات الحركات المسلحة التي يرتبط مصيرها بتنفيذ الترتيبات الأمنية في اتفاق جوبا للسلام(2)، إلى إنهاء المرحلة الانتقالية الأولى، وإلى صعود “الميليشيات الريفية”(3) كفاعل في الحياة السياسة، وبذلك فقد “سيطرت هذه الميليشيات على الدولة السودانية”(4) خاصة بعد إزاحة المكونات المدنية المنافسة للعسكر داخل مؤسسات الحكومة الانتقالية السابقة.
وبالنتيجة، أدى ذلك أيضًا إلى تعزيز طموحات قائد قوات الدعم السريع في حكم البلاد؛ كما “أضحى الدعم السريع فاعلًا مهمًّا في الفترة الانتقالية”(5).
بشكل متسارع، تعزز نفوذ قوات “الدعم السريع” التي تحوَّلت “من ميليشيات غير منضبطة في بداياتها الأولى إلى تنظيم عسكري له مؤسسات”(6)، كما تزايد نفوذ قائدها بشكل كبير، لتغدو تلك القوات منظومة أخطبوطية لا يقتصر دورها على الداخل السوداني فحسب وإنما أصبحت فاعلًا على المستوى الإقليمي أيضًا، وذلك عقب مشاركتها بفاعلية في الحرب في اليمن ضمن قوات التحالف العربي منذ عام 2015، فضلًا عن شبكة العلاقات الخارجية لقائد هذه القوات (حميدتي) الذي يعتبر حليفًا قويًّا للإمارات العربية المتحدة. كما تحدثت تقارير عديدة عن مشاركة قوات الدعم السريع في الصراع الليبي، من خلال القتال إلى جانب قوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر الذي يتلقى بدوره الدعم من المحور الإقليمي المضاد للثورات العربية بقيادة أبوظبي أيضًا(7) .
وتأخذ معضلة هذه القوات، من بين أوجهها المتعددة، بُعدًا آخر وهو الطابع الأسرى والعشائري الضيق. لذلك، وبينما يوصف حميدتي حاليًّا بـ”رجل مجلس السيادة القوي، والرئيس الفعلي للبلاد”(8)، كذلك يلعب شقيقه الأكبر ونائبه في قيادة قوات الدعم، الفريق عبد الرحيم دقلو، أدوارًا سياسية وأمنية واضحة؛ على صعيد التطبيع مع “إسرائيل” عقب انخراط الحكومة الانتقالية في هذا المسار بعد توقيعها، في 6 يناير/كانون الثاني 2021، على “اتفاق أبراهام”(9)؛ حيث كان جزءًا من وفد عسكري زار “إسرائيل” قبيل الانقلاب في 25 أكتوبر/تشرين الأول؛ الأمر الذي يعكس النفوذ المتزايد لإسرائيل داخل الحكومة الانتقالية(10)، كما عُيِّن أيضًا نتيجة لنفوذ شقيقه عضوًا في “مجلس شركاء الفترة الانتقالية”(11).
علاوة على ذلك، يلعب الفريق عبد الرحيم أيضًا دورًا كبيرًا في إدارة العلاقات مع أبوظبي؛ إذ توفر دبي ملاذات آمنة للشركات التابعة للدعم السريع وأنشطتها الاقتصادية. وهناك أيضًا دوره في الحوار مع قوى المعارضة المدنية، وتحديدًا بعض مكونات قوى إعلان الحرية التغيير، أو حتى التفاوض مع رئيس الوزراء المستقيل، عبد الله حمدوك، الذي توِّج بالتوصل إلى اتفاق في 21 نوفمبر/تشرين الثاني 2021، ينهي الإقامة الجبرية المفروضة عليه عقب الانقلاب في 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021، قبل أن يتقدم لاحقًا باستقالته من منصبه في 2 يناير/كانون الثاني 2022.
بالإضافة إلى ذلك، تعاظم دور قوات الدعم السريع وقائدها أكثر فأكثر عقب الانقلاب الذي نفذه المكون العسكري بمجلس السيادة الانتقالي، وإقصاء الشريك المدني داخل المجلس وفي الحكومة الانتقالية، وحاضنته السياسية المتمثلة في قوى الحرية والتغيير، ليضع بذلك حدًّا للشراكة بين الطرفين منذ توقيع الوثيقة الدستورية في 17 أغسطس/آب 2019 التي قامت على أساسها بعض هياكل السلطة الانتقالية.
كما أن صعود قوات “الدعم السريع” في السودان يمكن قراءته أيضًا في سياق إقليمي أكبر؛ حيث تزايدت وتيرة العسكرة و”الملشنة”، أي إنشاء ودعم المجموعات المسلحة وتوظيفها، عقب ثورات الربيع العربي، وهي السياسات التي تقف وراءها قوى إقليمية تسعى إلى إجهاض هذه الثورات ومنع قيام أنظمة ديمقراطية، وكذلك تفكيك المنظومات الأمنية القديمة بهدف تأسيس منظومات أمنية بديلة وخاضعة لها، كما حدث في اليمن وليبيا وغيرهما. في المقابل، “ترى بعض القوى الإقليمية –كمصر- أن المؤسسة العسكرية هي القوة التي يُعوَّل عليها في حفظ استقرار السودان”.
وفي السياق الإقليمي أيضًا هناك موجة الانقلابات العسكرية التي شهدتها مؤخرًا بعض بلدان القارة الإفريقية، وتحديدًا في منطقة الساحل الكبير؛ مما قد يشجِّع “الدعم السريع” على ما يمكن أن نطلق عليه “إغراء الانقلابات”؛ إذ يسهم تصاعد ظاهرة السيطرة على السلطة من قبل المؤسسات العسكرية في بروز ظواهر أمنية كقوات “الدعم السريع”، التي تتمتع بمزايا أفضل مقارنة بما تُعرَف بمجموعات “الحماية الذاتية” التي تُشكَّل من قبل بعض الحكومات الوطنية أو الدول الأجنبية في دول الساحل الكبير للقيام ببعض المهام الأمنية لاسيما في مكافحة الإرهاب في داخل تلك الدول، خاصة في المناطق الحدودية الرخوة بين دول المنطقة.
كل ما سبق لا يدع مجالًا للشك في أن بعض الأطراف الخارجية ترى أن تحقيق مصالحها أو تعزيز نفوذها، سواء في السودان أو الإقليم، يمكن أن يتحقق من خلال المراهنة على المكون العسكري، خاصة التشكيلات غير النظامية كـ”الدعم السريع”. كما أن قوات الدعم السريع تخدم استراتيجية “إسرائيل” الكبرى تجاه الدول العربية من خلال فرض التطبيع أو إضعاف مقدرات الدول العربية من خلال دعم الميليشيات والتحالف معها على حساب الجيوش النظامية.
ثانيًا: صعود “الدعم السريع”: من مكافحة التمرد إلى شريك في الحكم
إن تأسيس الميليشيات والمجموعات المسلحة غير النظامية والاستعانة بها ليس أمرًا جديدًا في السودان؛ إذ احتلت الحروب والصراعات حيزًا كبيرًا من تاريخ البلد بعد الاستقلال؛ حيث ظل السودان “الدولة المضطربة”(13). ولهذا السبب شهدت البلاد ظهورًا لهذه التشكيلات التي كان “الدعم السريع” آخرها بطبيعة الحال.
من هذا المنطلق، وفي ظل استمرار الحرب في جنوب السودان وتمدد التمرد الى جبال النوبة (أواسط جنوبي غربي البلاد) والنيل الأزرق (جنوبي شرقي البلاد)، عقب اندلاع “الحرب الأهلية الثانية” في عام 1983، ولاحقًا نشوب التمرد في دارفور في عام 2003، لجأت الحكومة المركزية في الخرطوم إلى إنشاء ميليشيات عسكرية(14) حملت أسماء مختلفة كـ”المراحيل” و”الدفاع الشعبي” و”حرس الحدود”، وشرطة “الاحتياط المركزي” (أبو طيرة)، و”الشرطة الظاعنة”…إلخ، بهدف التصدي لتهديدات التمرد ولتخفيف الضغوط على القوات المسلحة والحؤول دون استنزاف قدراتها، وهي استراتيجية وصفها أليكس دي بأنها كانت “مكافحة للتمرد بأقل التكاليف”(15).
إضافة إلى ذلك، وبجانب الجذور المحلية للتمرد والحروب، ظلت الأبعاد الإقليمية أيضًا عاملًا مهمًّا في زيادة تلك المهددات؛ الأمر الذي أضعف من قدرات الحكومة المركزية على إخماد التمرد في الأطراف أو الحد من تهديداته؛ إذ أدت التطورات الإقليمية كتحوُّل ليبيا بعد نجاح “ثورة 17 فبراير” في الإطاحة بنظام العقيد معمر القذافي إلى بؤر جذب لشبكات التمرد الإقليمية، خاصة من دارفور.
وفي هذا الإطار، جاء انفصال جنوب السودان ليطرح إعادة بناء سردية “الهامش في مواجهة المركز” كمقولة لتبرير وتفسير الصراعات في البلاد. ومن ثم برز مصطلح “الجنوب الجديد” ليشير إلى استمرار سياسات حروب الاستنزاف انطلاقًا من الهامش الجديد (دارفور، ومنطقتي جنوب كردفان والنيل الأزرق)، الذي غدت دولة جنوب السودان الوليدة قاعدة خلفية له منذ قيامها في عام 2011 وحتى سقط البشير في عام 2019.
ونظرًا لتطور قدرات مجموعات التمرد المسلحة التي لجأت إلى حروب الاستنزاف، التي لا تقوم على السيطرة على الأرض أو الاحتفاظ بها بل على استنزاف العدو؛ كان لابد من إيجاد قوات تتبع نفس التكتيكات بل وتتفوق عليها؛ حيث كانت هذه القوات قوات “الدعم السريع”.
بعد أن وُجدت نواتها الأولى فيما عُرفت بقوات “حرس الحدود” التي تكونت عام 2003، جاء تكوين قوات “الدعم السريع”، عام 2013، لتكون قوات متخصصة في مكافحة التمرد (counterinsurgency). أطلقت “الدعم السريع” تحت قيادة العميد –آنذاك- محمد حمدان دقلو، سلسلة عمليات عسكرية عُرفت باسم عمليات “الصيف الحاسم”(16) استهدفت معاقل التمرد في دارفور وجنوب كردفان. وخلال الفترة بين عامي 2014 و2016 كانت نتيجة العمليات هي شل القدرات القتالية للمتمردين إلى حدٍّ كبير، ولكنها أيضًا “دفعت بحميدتي (..) إلى السلطة”.
ممَّا سبق تعتبر قوات “الدعم السريع” تطورًا طبيعيًّا لسلسلة من التشكيلات الأمنية شبه الحكومية التي عرفتها البلاد. بيد أن تجربة “الدعم السريع” كانت الأكثر تطورًا وفاعلية وأهمية من ذي قبل، وتعتبر حاليًّا من “أنجح ميليشيات السودان”.
وبفضل الإمكانيات التسليحية الكبيرة والتكتيكات العسكرية، مع تمويل ولوجستيات كبيرة، وكذلك توافر قيادة متماسكة من آل دقلو وعشيرته وأبناء القبائل العربية الأخرى، تحت إشراف جهاز الأمن والمخابرات الوطني آنذاك (جهاز المخابرات العامة حاليًّا)، نجحت في تكبيد قوات مجموعات التمرد في دارفور خسائر فادحة وإجبارها على الفرار إما إلى ليبيا للعمل مرتزقة لدى أطراف الصراع هناك، وإما إلى جنوب السودان.
بجانب مكافحة التمرد تولَّت هذه القوات لاحقًا مهام أخرى ذات صلة وثيقة بمهامها كقوات برية تتميز بسرعة الحركة والانتشار، ألا وهي مكافحة عمليات تهريب البشر التي تسعى لبلوغ ليبيا بهدف عبور البحر الأبيض المتوسط للوصول إلى أوروبا.
نظرًا لتفرُّد تجربة هذه القوات من حيث العدَّة والعتاد مقارنة بالتجارب السابقة، بدت تبعية هذه القوات مسألة إشكالية في وقت مبكر(20). ففي بداية الأمر وُضِعت تحت قيادة جهاز الأمن والمخابرات الوطني (جهاز المخابرات العامة حاليًّا). وفي أبريل/نيسان 2016، صدر مرسوم بوضع هذه القوات تحت إشراف الرئاسة/القائد العام للقوات المسلحة، وفي يناير/كانون الثاني 2017، أصدر البرلمان “قانون قوات الدعم السريع” الذي يضع هذه القوات تحت إشراف القائد العام للقوات المسلحة.
لا مناص من القول هنا: إنه بعد تراجع تهديد التمرد في أطراف البلاد، ومع التزايد الكبير لشعبية هذه القوات التي تحولت إلى قوة ضاربة، ازداد بالمثل رهان الرئيس البشير عليها؛ هذه المرة ليس ضد التمرد ولكن في مواجهة تصاعد وتيرة الاحتجاجات، ليجري استدعاء تشكيلات منها لتتمركز في العاصمة (الخرطوم) بهدف إخماد الهبَّة الشعبية التي بدأت تحقق زخمًا متزايدًا خلال العام 2019. وكانت قوات الدعم السريع من ضمن مكوِّنات ما عُرفت بـ”اللجنة الأمنية العليا”(21) التي أطاحت بالرئيس البشير.
وخلاصة القول هنا: إنه مثلما راهن الرئيس المخلوع، البشير، على هذه القوات، فقد راهنت عليها كذلك بعض المكونات المدنية التي كانت تقود الاحتجاجات آنذاك، ولذلك اعتُبر “انحياز” قوات الدعم السريع إلى قوى الثورة عاملًا مهمًّا في إرخاء قبضة المنظومة الأمنية الخاضعة لسيطرة البشير آنذاك، وبالتالي تسريع سقوط النظام ومن ثم وضع البلاد في مسار يرمي إلى تأسيس نظام حكم جديد.
ثالثًا: محدِّدات مستقبل قوات الدعم السريع
لابد من التأكيد هنا على حقيقة أن قوات الدعم السريع لم تعد فقط مجرد قوات عسكرية، وإنما منظومة سياسية وعسكرية ذات مشروع له ارتباطات محلية وإقليمية. وعليه، فإن التعاطي مع هذه القوات يشكِّل تحديًا كبيرًا خلال الفترة الانتقالية المتعثرة، وعلى المدى البعيد أيضًا؛ إذ يتوقف مستقبل هذه المنظومة على الصيرورة التي يأخذها سياق التفاعلات الانتقالية الجارية حاليًّا.
ومهما يكن من أمر، فإن مستقبل وضعية قوات الدعم السريع سيتوقف على ثلاثة محددات رئيسة على النحو التالي:
المحدد الأول:
تحولها إلى منظومة عسكرية سياسية كأمر واقع: بما يضمن لها الاستمرار في لعب دور مزدوج ومتعاظم عسكريًّا وسياسيًّا، من خلال توسيع الإمبراطورية الاقتصادية التي تتمتع بها حاليًّا بسبب القدرة على الوصول إلى موارد ضخمة، ولما تجده من دعم مهول من قوى إقليمية، وتحديدًا الإمارات العربية المتحدة، وإلى حدٍّ ما المملكة العربية السعودية، وهو ما يضمن لها الاستمرار منظومةً أمنية مستقلة ذات مشروع سياسي في المدى المنظور، وبالتالي تحولها عمليًّا إلى “دولة داخل الدولة”.
كذلك فثمة معطيات إقليمية تساعد على استدامة هذه الوضعية. فبالنسبة إلى أبوظبي تمثل قوات الدعم السريع رهانًا استراتيجيًّا لا يمكن التفريط فيه، لأهمية هذه القوات في تحقيق المشروع الإماراتي في السودان بأقل تكلفة، تحديدًا محاربة قوى الإسلام السياسي، والانخراط في مشروع “التطبيع” مع “إسرائيل”، فضلًا عن أهميتها لمشروعها الأمني في ليبيا وربما بعض بلدان الساحل الكبير، أو “حروب الساحل”(22)، بحسب جيرار برونيي؛ إذ يمكن أن تكون قوات الدعم رأس الرمح فيه، في ظل الامتدادات القبلية لعناصرها في العديد من بلدان هذه المنطقة المضطربة.
المحدد الثاني:
العلاقات بينها وبين المؤسسة العسكرية الأم (قوات الشعب المسلحة): إنَّ العلاقات بين الدعم السريع والجيش تتحدد من خلال ثلاثة عوامل: الأول: طبيعة العلاقات والتحالف مع القائد العام للقوات المسلحة ورئيس مجلس السيادة (الفريق أول عبد الفتاح البرهان). وأشار تقرير فريق الخبراء الأممي الخاص بلجنة العقوبات الاقتصادية الدولية المفروضة على السودان في رسالته إلى مجلس الأمن الدولي في 24 يناير/كانون الثاني 2022، إلى “وجود توترات داخل القيادة العسكرية نفسها”(23). والعامل الثاني: احتواء البروز المتزايد لتيارات داخل القوات المسلحة معادية لقوات الدعم السريع؛ فهناك حالة من “الاستياء المكتوم وسط قادة القوات المسلحة”(24)، بسبب استمرارية هذه القوات وتضخمها على حساب المؤسسة ذات التراتبية والتقاليد العسكرية الصارمة، وتطالب بإخضاع الدعم السريع لسيطرة الجيش وإدماجها فيه. لكن هذين العاملين قد يتغيران في حال ذهاب القائد العام، الفريق أول البرهان، وصعود قيادة أخرى تحمل مشاعر معادية أكثر لقوات الدعم السريع.
وأما العامل الثالث فهو قدرة كل من البرهان وحميدتي على حشد الدعم من الأطراف الخارجية، وتوظيف ذلك لحسم معاركهما البينية لمصلحة أحدهما دون الآخر(25).
ومع ذلك، فمن الممكن أيضًا أن تتغير تلك العوامل لمصلحة قائد الدعم السريع؛ خاصة في ظل السلطات الكبيرة للفريق أول حميدتي داخل نظام الحكم الحالي بصفته نائبًا لرئيس المجلس السيادي، وبالتالي فهو يتمتع بسلطات فعلية على بعض الأجهزة الأمنية في اتخاذ القرارات المتعلقة بالترقيات والإحالات إلى التقاعد، وهو ما يساعده على إحكام سيطرته على هذه التشكيلات لإخماد محاولات تحدي طموحاته -إذ إن “رئاسة السودان تبدو هي الهدف الأول له”(26) حاليًّا- أو تهديد استمرارية قواته، أو حتى إضعافها لمصلحة قواته والعمل على تصعيد قيادة موالية له داخل القوات النظامية.
المحدد الثالث: العلاقات بينها وبين القوى المدنية المدعومة من القوى الغربية: إذ لا تتوقف التحديات ومحاولات تحجيم قوات الدعم السريع على مواقف المؤسسات العسكرية النظامية وحدها؛ فهناك “إصرار [من] عدة أطراف عسكرية ومدنية على دمج قوات الدعم السريع في الجيش”(27). وبكل وضوح، هناك أيضًا المجموعات المدنية التي تتقاطع مع الأجندة الغربية الأوسع في البلاد لما بعد نظام الإنقاذ، وهي التي تقود حملات مناهضة للدعم السريع، كما تدعو أيضًا لإدماجها في الجيش بعد إصلاح القطاع الأمني.
استنادًا إلى ما سبق، راهنت القوى الغربية على المكونات المدنية باعتبارها أيقونات للديمقراطية الناشئة بالبلد في مواجهة النظام السابق وتركته الثقيلة: المكوِّن العسكري. ونتيجة لذلك، تبنَّت الدوائر الغربية استراتيجية ظلَّت تهدف، من خلال دعم المكونات المدنية المختلفة، لإخراج المكون العسكري من المشهد السياسي بصورة نهائية، وتحديدًا قوات الدعم السريع. غير أن هذه الاستراتيجية ظلت تصطدم بحقيقة تزايد نفوذ قوات الدعم السريع وقائدها الطامح إلى السلطة، ممَّا يجعل هدف إخراج المكون العسكري من المعادلة السياسية أكثر تعقيدًا. والأكثر من ذلك أن استمرار النفوذ القوي لهذه القوات داخل المنظومة العسكرية، وبالتالي منافستها للمكونات المدنية في تأسيس المشروعية ومراكمة رأس المال السياسي، يجعل من هذه المنظومة مهدِّدًا سياسيًّا حقيقيًّا للمكونات المدنية حتى في الاستحقاق الانتخابي؛ انطلاقًا من حقيقة أنَّ “سلطة حميدتي وقوته في سيطرته على الدعم السريع”(28).
أيضًا، وفي إطار المواقف القوية المناهضة لاستمرار قوات الدعم السريع وتزايد نفوذها العسكري والسياسي، هناك المجموعات المتمردة غير المشمولة باتفاقيات السلام القائمة أو حتى المشاورات السياسية التي تقودها حاليًّا بعثة الأمم المتحدة المتكاملة لدعم المرحلة الانتقالية في السودان (يونيتامس) منذ 8 يناير/كانون الثاني 2022، وتحديدًا الحركة الشعبية قطاع الشمال بقيادة عبد العزيز الحلو، وحركة تحرير السودان بزعامة عبد الواحد محمد نور. وتعارض هاتان المجموعتان أيضًا، بجانب مجموعات صغيرة أخرى، وربما المجموعات الموقِّعة على اتفاق “جوبا للسلام”، التي تراهن على تحقيق مكاسب إضافية تتوخاها من خلال إنفاذ الترتيبات الأمنية، قوات الدعم السريع وتناهض بشدة طموحات قائدها في السلطة، وقبل ذلك استمرار وضعية قواته.
علاوة على ذلك، تتواتر تقارير المنظمات الحقوقية الدولية التي تتهم قوات الدعم السريع بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان، وبالمسؤولية عن جريمة فضِّ الاعتصام أمام القيادة العامة للقوات المسلحة بالخرطوم في 3 يونيو/حزيران 2019، فضلًا عن مزاعم الانتهاكات ضد المدنيين إبَّان مراحل التصدي للتمرد وتحديدًا في دارفور، كما تدعو إلى إدراج قوات الدعم السريع ضمن سياسات إصلاح القطاع الأمني خلال المرحلة الانتقالية.
رابعًا: أهم السيناريوهات المتوقعة
على ضوء كل ما سبق، نحاول فيما يلي رسم بعض السيناريوهات حول مستقبل قوات الدعم السريع على النحو التالي:
السيناريو الأول:
السيطرة على السلطة بالبلاد: وهذا الهدف يمكن أن يتحقق من خلال الانقلاب الصريح، أو السيطرة الناعمة من خلال الشبكات التي أسسها قائد “الدعم السريع” بهدف بناء ظهير سياسي وعسكري يحقق له طموحه في حكم البلاد، سواءً عبر بناء حاضنة سياسية توفر إطارًا لاستمراره مستندًا إلى المحافظة على بقاء قواته في خلال الفترة الانتقالية، أو العمل على الفوز في الانتخابات المقررة في البلاد في نهاية هذه الفترة الانتقالية والوصول إلى السلطة بالبلاد.
ويمكن أن يكون هذا السيناريو أقرب إلى التحقق في حال تمكن قائد الدعم السريع، الفريق أول حميدتي، من السيطرة على القوات المسلحة من خلال إزاحة قياداتها الحالية واحتوائها وإخضاعها كمنظومة، خاصة أن تماسك هذه المنظومة أو صعود قيادة معادية له يهدد طموحاته، على غرار ما جرى من إزاحة للمكونات المدنية داخل الحكومة الانتقالية عقب انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول. بيد أن مثل هذا السيناريو يواجه، في الوقت ذاته، مقاومة متعددة قد تصل إلى الحرب أو إلى صراع مسلح معقد.
السيناريو الثاني:
الخروج من المعادلة: عبر إجراءات إدماج “الدعم السريع” في مؤسسات القطاع الأمني، أو ضمن خطة أكبر لإصلاح القطاع الأمني على أن يشمل أيضًا كل الميليشيات والحركات المسلحة، سواء من خلال عمليات الترتيبات الأمنية التي نصَّت عليها اتفاقيات السلام في جوبا الموقعة في 3 أكتوبر/تشرين الأول 2020، أو ضمن مقاربة أشمل لإصلاح القطاع الأمني كهدف جوهري للمرحلة الانتقالية التي يفترض أن تنتهي بإدماج “كل الجيوش والميليشيات” وصولًا إلى تكوين جيش مهني واحد.
وفي إطار هذا السيناريو أيضًا، هناك الضغوط الدولية المتزايدة التي قد تشمل فرض عقوبات على قيادة ومؤسسات قوات “الدعم السريع” والشركات الاقتصادية التابعة لها، كجزء من الاستجابة الدولية المستمرة تجاه المكون العسكري بعد الانقلاب الأخير. ومن شأن ذلك إجبار قائد “الدعم السريع” على الإذعان للمساومات التي ستُفرَض عليه: إما تحمُّل وطأة العقوبات، والاستمرار في نفس الوضعية الحالية، وإما التخلي عن قيادة قواته وخلع البزة العسكرية للمنافسة على السلطة المدنية، وإما مواجهة كل تلك العواصف، ولكنه خيار محفوف بالمخاطر؛ إذ سيؤدي الى مقاومة عنيفة من قبل قوات الدعم السريع وقائدها قد تجر البلاد إلى منعطف حرب أهلية حقيقية.
علاوة على ذلك، يحمل هذا السيناريو أيضًا مخاطر نشوب مواجهات مسلحة واسعة النطاق أو حروب مدن، خاصة في العاصمة، لاسيما في حال مقاومة أو رفض قائد “الدعم السريع” ترك السلطة أو تقليص نفوذه ونفوذ قواته.
لكن هذا السيناريو مستبعَد في ضوء المعطيات الراهنة، كما أنه يتطلب إما تسوية مع قائد الدعم السريع وإما ضغوطًا قوية داخلية وخارجية عليه تؤدي إلى إخراج “الدعم السريع” بسلاسة من المشهد نهائيًّا.
السيناريو الثالث:
بقاء الوضع الراهن على ما هو عليه حاليًّا: أي استمرار “الدعم السريع” ككيان مستقل عن القوات المسلحة، كما يلعب دورًا سياسيًّا كبيرًا ومؤثرًا، ويتوسع هذا الكيان بالتوازي معها أو التفوق عليها، مع استمرار “الشراكة” مع قائدها (الفريق أول عبد الفتاح البرهان) من خلال استمرار رئاسته لمجلس السيادة الانتقالي؛ حيث ظل الطرفان يؤكدان أن “القوات المسلحة والدعم السريع على قلب رجل واحد”(29). ولكن هذه وضعية “شاذة” تؤدي إلى تصاعد التوتر بين قوات “الدعم السريع” والقوات المسلحة من جهة، وبالتالي تباعد الشُقة بين مكونات المؤسسة العسكرية، وتراجع الثقة فيما بينها تدريجيًّا، ومن جهة أخرى تصعيد الصراع أيضًا بين قوات “الدعم السريع” وأطياف المعارضة المدنية. ممَّا يؤدي الى تصاعد الاستياء المكتوم داخل الجيش وربما قيام تحركات احتجاجية أو “تصحيحية”، على غرار المحاولة الانقلابية الفاشلة، في 21 سبتمبر/أيلول 2021، حيث حاول ضباط من سلاح المدرعات القيام بها احتجاجًا على تمدد الدعم السريع ولاستعادة “هيبة الجيش”. وبالتالي، فإن التحركات داخل القوات المسلحة لن تكون فقط ضد قوات “الدعم السريع” وإنما أيضًا قيادة ضد قيادة البرهان نفسه. ومع ذلك يبقى هذا السيناريو الأكثر ترجيحًا.
كذلك، في ضوء هذا السيناريو، ستستمر قوات “الدعم السريع” في لعب أدوار متعددة سياسية وعسكرية، كما ستتوسع إمبراطوريتها الاقتصادية، وكذلك شبكاتها السياسية والإعلامية بهدف المحافظة على مكاسبها ووضعها الراهن كفاعل لا يمكن تجاوزه أو المساس به، والعمل على مقاومة محاولات تعديل وضعيتها الراهنة بكل السبل.
خاتمة
من خلال استمرارها ككيان عسكري مستقل والتمدد داخل أجهزة الدولة منذ سقوط البشير، في 2019، وطوال الفترة الانتقالية الأولى (من التوقيع على الوثيقة الدستورية في 17 أغسطس/آب 2019 حتى انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021)، فقد خلقت قوات “الدعم السريع” وضعية غريبة هجينة تؤدي إلى نتيجتين: تكريس عسكرة السياسة من خلال السيطرة على أجهزة الدولة، واستمرار العسكر في السلطة ومنع أي فرص للتحول الديمقراطي بالبلاد، وبالتالي ستكون النتيجة منع إمكانية قيام قوات أمنية مهنية واحترافية خاضعة للسيطرة المدنية الديمقراطية، فضلًا عن تجذير الزبونية من خلال استخدام المال السياسي لشراء الذمم والولاءات بهدف خلق قاعدة أو حاضنة سياسية، وبالتالي إضعاف القوى المدنية الوطنية.