* جاءت مبادرة رئيس الوزراء التي طرحها أمس تحت عنوان (الأزمة الوطنية وقضايا الانتقال – الطريق إلى الأمام) متأخرة عامين كاملين عن موعدها، حيث ظل الكثيرون (عبر الصحف وغيرها) يتناولون القضايا التي طرحها رئيس الوزراء كأسس جوهرية لا بد منها لاستعادة الدولة السودانية وإرساء قواعد الحكم المدني الديمقراطي، وعلى رأسها تصفية النظام البائد ومحاكمة مرتكبي الجرائم والمفاسد واستعادة المال المنهوب واستكمال مؤسسات الفترة الانتقالية وتحقيق العدالة لضحايا دارفور ومجزرة فض الاعتصام، ووجود جيش وطني موحد، بالإضافة الى اتخاذ كافة الاجراءات اللازمة للعودة الى المجتمع الدولي واصلاح الاقتصاد السوداني ..إلخ!
* غير أن السلطة الانتقالية ظلت بكل مكوناتها تتجاهل ما يُكتب ويقال، وبدا الدكتور (حمدوك) وكأنه يعيش في برج عاجي أو أنه غير راغب في الحكم ــ ما عدا العمل في بعض الملفات الخارجية، ولا يتحدث الى الشعب إلا نادرا ببعض الجمل الإنشائية وعبارته المشهورة (سنعبر وننتصر)، بينما تزداد الأوضاع الداخلية سوءاً وتشتد قبضة العسكر على السلطة، وتسيطر الصراعات والشلل على المشهد السياسي، ويصاب الشعب بإحباط عميق، ويفقد الدكتور كل يوم قدراً هائلاً من شعبيته!
* ويبدو انه قد أحس أخيراً بأنه لا بد ان يتحرك والا فقد كل شيء، وسقطت البلاد في هاوية عميقة من الفشل سيحمله التاريخ العبء الأكبر منه، فجاء حديثه قبل اسبوع عن الاصلاح الاقتصادي والاستقرار السياسي، الذي إستكمله أمس بمبادرته (التحرك نحو الامام)، وبدا وكأنه يتحدث في بداية عهده كرئيس وزراء وليس بعد عامين كاملين من تعيينه في المنصب، مضيعاً فرصة التأييد الشعبي الكاسح ليزيح الكثير من العقبات عن طريقه وتحقيق الكثير من الانتصارات للثورة ولنفسه، وحسناً فعل بتحركه لمحاولة انقاذ ما يمكن إنقاذه، ونأمل الا يكون الوقت قد تأخر!
* احتوت مبادرة (حمدوك) على الكثير من النقاط، وكشفت في الوقت نفسه عن المخاطر المحدقة بالبلاد، من بينها الصراع العسكري العسكري ، متحدثاً (ربما للمرة الاولى) عن ضرورة وجود جيش وطني واحد، وهو ما ظللنا نتحدث عنه قبل سقوط النظام والدعوة لإعادة هيكلة قوات الدعم السريع وانهاء الوضع الشاذ الذي اوجده النظام البائد بوجود قوات عسكرية خارج سيطرة القيادة العامة للقوات المسلحة، إلا في حالة الطوارئ والحرب أو صدور أمر من القائد الأعلى (رئيس الجمهورية) بوضعها تحت إمرة القائد العام للجيش، حسبما نصت عليه سابقاً المادة (5 ) من قانون قوات الدعم السريع لعام 2017 !
* ومما زاد الطين بلة صدور مرسوم دستوري من رئيس المجلس العسكري السابق بعد سقوط النظام البائد بإلغاء تلك المادة ومنح الاستقلالية الكاملة للدعم السريع وقائدها، الأمر الذي أعطى قائدها سلطة عسكرية غير مسبوقة في تاريخ السودان، جعلته يتصرف وكأنه الحاكم الأول للبلاد، ولقد حان الوقت لإنهاء هذا الوضع الشاذ بأسرع ما يمكن، وإلغاء قانون قوات الدعم السريع وإعادة هيكلتها ودمج ما يصلح منها في القوات المسلحة حسب القواعد والشروط الفنية والعسكرية المطلوبة، وإلا استحال تحقيق الاستقرار السياسي المطلوب وأول قواعده هو وجود جيش وطني قوي موحد يخضع لقيادة موحدة تأتمر بأمر القيادة السياسية، وليس عدة مليشيات تخضع لمزاج وأهواء قادتها بعيداً عن القوات المسلحة والقيادة السياسية للدولة!
* ولا بد من حسم فوضى المليشيات العسكرية التي تتضخم من يوم لآخر من خلال عمليات التجنيد المستمرة ومنح الرتب العسكرية بدون ضوابط داخل قوات الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق جوبا، وهو الذي سمح بهذه الفوضى بالنص على وجود المليشيات خلال الفترة الانتقالية (مدة 40 شهراً) بدلاً عن تسريحها ودمجها في القوات المسلحة بالطرق المتبعة، وهو خلل جوهري لا بد من معالجته فوراً بتعديل الاتفاقية، إذ لا يعقل أن يكون لقوى سياسية مشاركة في الحكم، ويحق لها المشاركة في العملية الانتخابية عند نهاية الفترة الانتقالية، مليشيات عسكرية حتى لو لم تستخدمها لتحقيق مصالحها وأهدافها!!
* بالإضافة الى ذلك، المعالجة الفورية للضعف الشديد في جهاز الشرطة، والذي بدا (من تصريحات بعض قادته وسلوك بعض أفراده) وكأن متعمد مما أدى لانتشار غير مسبوق للجريمة والمجرمين وانهيار الأمن، ولقد حان الوقت لوضع حد له بكل الوسائل الممكنة ومعالجة أوجه القصور لتحقيق الانضباط المطلوب !
* لا يمكن لدولة تنشد الاستقرار والسير الى الامام، أن تسمح بوجود جيش موازي لجيشها يتحكم فيه فرد، ومجموعة مليشيات لا يعلم أحد عدتها وعتادها وارتباطاتها الخارجية، وشرطة ضعيفة تقف عاجزة وهي ترى المجرمين يسرقون ويعتدون ويقتلون ضحاياهم في وضح النهار!