“الشعوب الواعية لا تَعتِبر جَهد الحاكم في خِدمَتهَا مَكرمة، ولا تَشكُر مسئولاً على واجب” .. الكاتبة ..!
قبل سنوات مضت، وفي حدثِ درامي – أو حادثةٍ شهيرة – تقدم أحد الولاة باستقالته، أو لعله قد وُجِّه بتقديم الاستقالة، لست أدري بالضبط. هي على كل حال تفاصيل شكلانية لم تكن تعني مدير تلك المؤسسة المرموقة في شيء، بقدر ما كان يشغل باله تدبيج تهنئة معتبرة للسيد نائب الوالي، الذي كان اضطلاعه بشئون الولاية أمراً معلوماً بالضرورة ..!
طلب المدير من موظف العلاقات العامة والتسويق والنشر والذي منه، أن يسارع إلى نشر تهنئة باسم المؤسسة في أكثر صحف الخرطوم انتشاراً. وبعد مرور دقائق عاد الموظف إلى مديره ليخبره بأن الصفحة الأخيرة بتلك الصحيفة محجوزة ليوم غد. فعَبَس المدير في وجهه، وكأنه يراه مسئولاً عن ذلك “العارض” على نحوٍ ما. ثم أمره باقتضاب أن يحجز نصف الصفحة الأخيرة في عدد اليوم التالي ..!
في المساء كان السيد المدير يدخن حجراً من “المُعَسِّل” المستورد بصحبة بعض أصدقائه المقربين من دوائر صنع القرار، حينما سمع خبراً مؤكداً عن حل حكومة تلك الولاية برُمَّتِها، وتعيين مسئول آخر والياً على شئونها وشجونها ..!
في صباح اليوم التالي قامت السكرتيرة باستدعاء الموظف المسئول عن نشر ذلك الإعلان إلى مكتب المدير على وجه السرعة، فلبَّى النداء مهرولاً، وهو يسأل الله أن “يَسُتُرَها”. دخل الموظف على مديره فوجده منتفشاً كمصيبةٍ في أطوارها الأولى، عابساً في وجهه، وكأنه هو الذي أطاش سهم توقعاته السياسية. وقد تمخض ذلك اللقاء – بطبيعة الحال – عن أمرٍ إداري بإلغاء تهنئة الوالي المكلف السابق، وتدبيج تهنئة أكثر حماسةً للوالي الجديد. مع توجيهٍ صارم بأن تكون مساحة التهنئة صفحة كاملة، هذه المَرَّة ..!
والآن – “أرجوك لا تفهمني بسرعة” – وأنت تقرأ تقديري للخبر الذي نشرته بعض صحف الأمس، والذي حدِّثنا عن قطعة أرض الحي الراقي والعربة “اللاند كروز استيشن موديل العام”، اللذين أهدَتهُما اللجنة الشعبية التي انتَظمت واحتَشدت بولاية الجزيرة لتكريم واليها السابق، الذي أصبح اليوم رئيساً للوزراء ..!
صحيح أن السيد رئيس الوزراء – المُحتفى به باعتبار ما سبق تصريحاً، وباعتبار ما هو آتٍ تلميحاً!– قد اعتذر عن استلام تلك الهدايا بصفته الشخصية، قبل أن يقوم بعملية “ري قفتينق” لتلك الهدايا، كما يقول “الخواجات”، فيوجِّه بمنح العربة لمستشفى القلب وتخصيص قطعة الأرض لإنشاء استراحة لمرافقي مرضى السرطان، متبرعاً من حر ماله بمبلغ مُعتَبر لتدشين العمل في مشروع الاستراحة – كُلُّ هذا صَحيح – ولكن ردة فعله تلك لا تمنح شَرعيَّة لهذا النوع من التمَلُّق الشعبي الذي بات ظاهرةً تستحق الدراسة ..!
مَبعثُ استيائي – المنطقي – هو أن تلك التهاني والتبريكات التي يتم إمطار المسئولين بها حين تولي المناصب ليست “لله في لله”، وأن الشعور بالامتنان، وواجب تقديم الشكر، والرغبة في رد الجميل، ليست أسباباً حقيقية لأي تكريم يحظى به أي مسئول. ثُمَّ أن تلك الهدايا الباهظة التي يتم تقديمها إليهم في مواسم الوداع ليست ذات علاقة بأي بلاء حسن كانوا قد أبلوه ..!
مثل هذا السلوك الشعبي لا نجد له نظيراً في بلاد أخرى، مُنَعَّمَة اقتصادياً، ومُتقدِّمة حضارياً، ليس لشيء سوى أنها قد طوَّرت وعيها الشعبي، وتسلَّحَت برُقِيِّها الحقوقي، في مواجهة هذا الضرب من الإهدار الغاشم للحقوق والأموال ..!
فالحكاية ببساطة كالآتي: إما أن لا يؤدي المسئول واجبه كما ينبغي، فيكون بذلك مقصراً، وإما أن يقوم المسئول بشئون تكليفه على أكمل وجه، فيكون أدَّى واجبه، لا أكثر. أليس كذلك ..?!