عندما كنت مديرا لإدارة الإعلام بالقصر شهدت السيد رئيس الوزراء د. عبد الله حمدوك يؤدي القسم أمام السيد رئيس مجلس السيادة.
كان الموقف مهيبا وكانت القلوب تواقة تترقب ميلاد الحكومة الانتقالية الجديدة.
فبمقدم قائد ركبانها العائد لتوه من إثيوبيا تنطوي صفحات طويلة من الكفاح والنضال وتشرئب الأنفس إلى مستقبل أبيض وفجر جديد.
بعد أداء القسم وجهني المستوى الأعلى لاصطحاب دكتور حمدوك إلى المركز الإعلامي الذي احتشد وضاق بالإعلاميين من كل حدب وصوب.
كانت كاميرات التصوير تبدو وكأنها مدافع جيش عرمرم يتأهب للهجوم.
دخلنا المركز نشق الجموع، استأذنت السيد رئيس الوزراء لأبدأ البرنامج، قدمته بكلمات مدخلها رائعة الطيب عبد الله:
الغريب عن وطنو مهما طال غيابو
مصيرو يرجع تاني لأهلو وصحابو
ومن بعد تحدث سعادته لذاك الجمع لدقائق، ثم طلب مني أن أنظم أسئلة المؤتمر. ولوعثاء السفر قلت له لنأخذ خمس فرص، فوافق.
حرصت على توزيع الأسئلة بالعدل والتساوي يمنة ويسرى، مع الوضع في الحساب اختلاف الوسائل مرئية كانت أم مسموعة أو مقروءة، وكذا اعتبار الجنس الآخر من الصحفيات.
انتهى المؤتمر الصحفي، المراسم تتحرك يخرج رئيس الوزراء إلى سيارته ويتفرغ الجمع الغفير والليل يعم المكان.
سمعت أحد الصحفيين يتحدث مغاضبا وبنبرة حادة، خلته يخاطب آخرين لكن مع انخفاض الضوضاء وتركيز انتباهي أدركت انه يتحدث إلي!! قلت: إنت معاي يا أستاذ؟ قال لي: نعم، قلت له: اتفضل .. قال: ياسعاتو لم تسقط بعد..! لماذا لم تعطني فرصة لأسأل حمدوك..؟ وأردف قائلا: حركات كيزان.. ضحكت في سري وقلت الإتهام الموجه لي الآن هل هو عدم العدالة في توزيع الفرص أم الكوزنة..؟ لا مصلحة لي مع شخص في توزيع الفرص فلقد قدرت طريقة توزيعها متوخيا العدالة ما استطعت.. أما الكوزنة فلن أعير شخصا لانتمائه مهما كان فكل شخص حر في فكره ومعتقده ولو كنت تملك معلومات دقيقة كصحفي محترف لعرفتني إن كنت كوزا أو غير ذلك.
تدخل أحد المخضرمين في النقاش وخرجنا جميعا في صحن القصر الشرقي وليل الصيف البهيم يغطي سماء القصر وتتوارى ضحكاتنا وقهقهاتنا معانقة أصوات سيارات شارع الجامعة. لينتهي يوم طويل من العناء والعمل المضني. خواطر جالت في عقلي وأنا أقود سيارتي عائد لأم درمان. قلت: مابال هذه الأمة … على عهد النظام السابق كانت الصورة الذهنية عند البعض.. للعلماني أو اليساري أشبه بالبعبع الذي يخوف به الأطفال وكان الناس يفرون من العلماني اليساري كما يفر من المجزوم .. هكذا فعلت آلة الكراهية الإعلامية. ثم جاءنا زمان تغيرت فيه الصورة.
يبدو أننا مقدمون على الفرار من الكوز كما يفر من الكورونا .. مع الفارق في المثالين.
دفعتي العميد عطية الله قال لي ذات مرة: نحن في ورطة نمشي هنا يقولوا شيوعي .. نمشى هناك يقولوا كوز ..
جدتي عائشة – رحمها الله – وجدت إحداهن تبكي لأن قريناتها اغتبنها، فقالت: مايبكيك يابتي؟.. فقالت: البنات نضمو فيني، فقالت: (يابنت الناس نضمو في شيخ نواوي المو لعب انتي شنو).
ذات مرة وجدت بنتي غاضبة قلت: ماخطبك؟ قالت: البنات قالوا لها إن أباك كوزا..!! ذكرتها بمقولة جدتي عائشة، وشرحت لها إن ذاك هو ثمن الشهرة وتضحية من يقدم نفسه للمنصب العام ثم أردفت: يا أخت محمد ومحمد هذا ابني ماكان أبوك كوزا ولا علمانيا. ولكنه سودانيا عشق الوطن والبزة العسكرية .. تنطبق عليه عبارة المرحوم الشاعر أبو آمنة حامد عندما سألته المذيعة من هو أبو آمنة حامد؟ تقصد السيرة الذاتية ..أجابها ضاحكا: (أعرابي من مدينة هيا ضل طريقه إلى الخرطوم لولا أن توقف به القطار في بحري لذهب إلى كيب تاون).
لا أدري لماذا تذكرت قصة الطالب النابهة بجامعة الخرطوم منتصف التسعينات الذي دفع ثمن انتمائه الفكري صراعا وعنفا لفظيا وجسديا انتهى بتدهور صحته النفسية ثم مات وماتت أمه حزنا عليه.
والقصة أنهم ظلوا يعيرونه بابن الشيوعي ذاك لأن أباه كان من قيادات اليسار السوداني المشهود لهم بالوطنية والتجرد والنزاهة.
وها أنا أتذكر رائعة الشاعر محمد عبدالله شمو، مريم الأخرى:
هاهي الأرض تغطت بالتعب والبحار اتخذت شكل الفراغ
وأنا مقياس رسم للتواصل والرحيل
وأنا الآن الترقب وانتظار المستحيل
إلى أن يقول:
هل أنا أبدو حزينا ..
هل أنا القاتل والمقتول حينا والرهينة
إن كان في القصة عبرة متى سنخرج من هذه (الغلوتية).. غلوتية كوز وشيوعي ألا توجد منطقة وسطى. ترى كم حجم الجهد الذهني والعقلي والنفسي الذي بذل في هذا التنازع.؟ الجهد الذي ضاع بلا مقابل ولا جدوى.. كيف سيكون الحال إن وجه هذا الجهد نحو التضامن والحب والوفاء والتسامح والعدالة الانتقالية التي تحفظ الحقوق وتحقق العدل دونما كراهية أو بغضاء..؟.
سألني ساخط على حالنا عن كيف تنهض الأوطان؟ قلت عندما نتسامى فوق الإدغان