دعوات العصيان المدني الأخير والذي شهدته الخرطوم العام الماضي تقريباً، كان بسبب تدهور الحالة الاقتصادية وارتفاع الأسعار بشكل عام وأسعار الدواء بشكل أكثر خصوصية، ولعل التجاوب الكبير من قبل الصيادلة في الإغلاق الجزئي لصيدلياتهم في ذلك الوقت أكد أن حالة الغضب وسط المواطنين وصلت قمتها، ومع القليل من الضغط المتواصل في بقية المرافق، مع العمل المنظم من أحزاب المعارضة كان من الممكن أن ينجح العصيان ويؤدي غرضه تماماً.
وهاهي ذات المشكلة تتواصل وتطبق على المواطن من جميع الاتجاهات، فبعد ارتفاع أسعار الكهرباء والمياه والسلع التموينية المهمة والدواء، برزت مشكلة جديدة تمثلت في رفع سعر دولار الدواء، ومن المفارقات في العصيان السابق أن المجلس القومي للصيدلة والسموم كان قد أعلن التسعيرة الجديدة للدواء عقب تحرير سعر دولار الدواء من “6,5 إلى 15,8″، لتتضاعف التسعيرة الجديدة لتكون زيادة سعر الدواء بنسبة أكثر من 200%، ما أدى لإعلان أكثر من حوالي “300” من جملة “3000” صيدلية بالعاصمة عن وقفة احتجاجية عن العمل تبدأ من التاسعة صباحاً وتنتهي في الخامسة مساءً؟
ذلك الإضراب الذي شهدته بنفسي متوقع وطبيعي جداً، وكان من الممكن أن يؤدي لنتائج كان من الممكن أن تكون حاسمة ورادعة للحكومة التي ظلت توجه الصدمات صدمة تلو الأخرى للمواطن، دون أن تتبين نتائح ما ستقدم عليه، لأن الأمر قد دخل في اللحم الحي.
رفع قيمة دولار الدواء سيؤدي بطبيعة الحال إلى ضرر بالغ على المواطن وعلى قطاع الصيدلة، لأن الدواء الذي غاب عن الصيدليات بسبب عجز المواطن عن شرائه مؤكد سيتعرض للتلف بسبب انتهاء مدة صلاحيته، وربما أصبح تعاطي الدواء أشبه بكناتين )الكريمات والبوتيكات( البيع بالجرعة للمريض أو بالمعنى الدارجي، بيع الدواء بطريقة )قدر ظروفك(.
والظروف الصحية ليست مثل باقي الظروف بالتأكيد، وهو ما أدى لظهور حالات )حراق روح( غريبة أشهدها لأول مرة في عدد كبير من السودانيين، ما جعلني أتنبأ بأن الوضع القادم سيكون المسيطر فيه المواطن وليس سواه. والدليل على ذلك صمت المواطن الذي يحيرني وأطمئن نفسي من وقت لآخر وأسميه بالصمت الذي يسبق العاصفة.
زيادة في أسعار الكهرباء، والمواطن صامت، زيادة في تسعيرة المواصلات، والمواطن ساكت، زيادة في رسوم الكهرباء والمياه، والمواطن صابر، زيادات في أسعار تذاكر الطيران والمواطن راااضي، كل يوم زيادة جديدة لا تقابلها زيادة في المرتبات والمواطن لم يكل أو يمل، ولكن الزيادة في أسعار الدواء ستكون هي الفيصل، و)فرَّاق الحبايب(، لأن الدواء الشيء الوحيد الذي لن يقبل القسمة علي اثنين.
العاملون بأجهزة الدولة المختلفة، والموالون للمؤتمر الوطني من الطبقات الوسطى والفقيرة، سيفيقون قريباً على صدمة موت الأقارب بسبب عدم تمكنهم من إنقاذ حياة أم أو أب أو أخ أو أخت أو ولد أو زوجة، والسبب غلاء الدواء، وقلة المرتبات، وسيكون فراقهم لما يسمى بالنظام الحاكم، لأنه لن يكون أحنَّ عليهم من والد أو ابن أو زوجة، وسينتبهون فجأة أنهم من تسبب في هذا الوضع بصمتهم وتصفيقهم وحمايتهم للقرارات الكارثية، وحمايتهم لأفراد فسدوا ونهبوا أموال هذا الشعب وتمتعوا بها، وضنَوا علي الآخرين بالفتات، عندها فقط يمكن أن نقول إن التغيير للأفضل والتغيير السلمي قد ظهرت بوادره. وأتت بشرياته.