لم تبارح ساحتنا السياسية أزمة القادة (خارقي الذكاء)، فغالبيتهم يفترضون الغباء الصارخ في الشعب، بينما الذكاء والعبقرية الفذة من نصيبهم (كما يصور لهم خيالهم) وهي التي أوصلتهم إلى أعلى مؤسسات الدولة حسب ظنهم، وكأنهم أتوا بإنتخابات حرة مباشرة ولم يأتوا على ظهر دبابة.
البرهان نموزجا لهؤلاء القادة وهو يقدم أمس الأول خطابا مبهما غير واضح الملامح، بل خطابا مُفخخا (حمَال أوجه) وليس وجهين كما ذكرت بالأمس، ما أراد ايصاله للجميع من خلاله أنه يقوم بمهمة تخصه وحده لن يشرك فيها أحدا، مدنيين كانوا أم عسكريين، فقط على الجميع رفع التمام لسعادته.
وضح من خطابه (المفخخ) أننا أمام التجهيز والإعداد لإنقلاب رابع كامل الدسم، وتأكد بما لا يدع مجالا للشك أن السيد القائد العام للقوات المسلحة لن يتخلى عن السلطة مهما كانت الاسباب والمسببات، رغم التصعيد الثوري الذي وصل مداه في 30 يونيو والذي أثبت انه لولا (الحاويات) التي إحتمى بها سعادته لما كان هناك برهان الآن ولما كان خطابه الملغوم.
أراد في حديثه إيصال ذات الفكرة التي يكررها يوميا إعلامه وإعلام بعض القوى السياسية الثورية المناهضة للإنقلاب والتي نجحت في تقديم خدمة مجانية له ولمجموعة الإنقلابيين ومؤيديهم بأن الحرية والتغيير هي المسؤول الأول والأخير عما يحدث الآن من تدهور في جميع مناحي الحياة، وأنها ستفشل في تقديم نفسها مرة أخرى كحاضنة سياسية للحكومة المدنية القادمة، وبالتالي لن يتبقى له خيار أمام المجتمع الدولى سوى الإستمرار في مناصبه لحين قيام إنتخابات، وبقية السيناريو معلوم بطبيعة الحال للجميع.
قوى إعلان الحرية والتغيير المجلس المركزي، ردت بالأمس على الخطاب وعلى المشككين في نواياها فيما يخص التسوية المزعومة مع العسكر، ردا كافيا شافيا وهي تعلن رفضها التام للخطاب وما سيترتب عليه، كاشفة عن خطوات قادمة لتكوين جبهة وطنية عريضة لتوحيد كافة قوى الثورة المناهضة للإنقلاب من لجان مقاومة وأجسام مهنية وأحزاب سياسية ومنظمات مجتمع مدني، وغيرها من مكونات ساعية لإسقاط الإنقلاب نحو التحول المدني الديمقراطي الذي يؤسس لدولة العدالة والحرية والسلام.
في اعتقادي ان الطريق نحو ذلك لن يكون بالأمر السهل، ولكن على قوى إعلان الحرية والتغيير التحرك في جميع الإتجاهات مستفيدة من الزخم الإعلامي والتعبئة الجماهيرية ضد قائد الإنقلاب ومؤيديه لكسب اراضي جديدة خاصة بالولايات التي يمكن أن يتم التأثير عليها من قبل الأحزاب والمكونات الساعية لإيجاد أرضية لها ضمن (جوقة البرهان) الإنتهازية كما شاهدنا بالأمس فيما يسمى بمبادرة (أهل السودان) والتي جمعت ما جمعت من مكونات وشخصيات لا وجود لها في الواقع السياسي الجديد.
لجان المقاومة التي تعارض وجود الحرية والتغيير في المشهد، عليها تفويت الفرصة على المراهنين على فشل الوحدة، فالإتفاق على الثوابت موجود وهو الارضية التي يمكن أن ينبني عليها تأسيس حوار وطني جاد يخرج البلاد من هذه الأزمة ويحقن الدماء، ولا أعتقد ان (حُرَاس النوايا) من مكونات ثورية أخرى لا زالت لديهم ذات الشكوك في وجود تسوية بين الحرية والتغيير والمكون العسكري بعد الإيضاحات الوافية لقادتها يوم أمس في المؤتمر الصحفي، فلتبدأ جلسات الحوار (الثوري الثوري) منذ الآن وتفويت الفرصة على البرهان وفلول حزبه المنبوذ، وكل من أراد بالسودان شرا، فالإتفاق على إسقاط الإنقلاب وفق خارطة موحدة حتما هو السبيل الوحيد للوصول للغاية المنشودة بأيسر الطرق وبتكلفة أقل.
خلاف ذلك فليستعد السودانيين لصيف ساخن جدا ستتسيد فيه الساحة وتعيث فيها قتلا وتنكيلا بالشعب، كتائب ظل الإسلاميين وعسسهم وقوات البرهان ومليشيات الجنجويد وغيرها من قوات خارجة عن القانون، عندها فقط سيعلم الرافضون للوحدة حجم الجرم الذي إرتكبوه في حق الوطن وفي حق شعبه.