“أعظم حيتان البحر ليست لديها قوة في الصحراء” .. كونفوشيوس ..!
سُئل أحد علماء الصين إذا ما كان يعتقد أن طلب العلم يتحقق بالتنقل خارج الصين، فكان جوابه “إن من يطلع على الدراسات الصينية القديمة ليس بحاجة إلى أن يطلع على مزيد من العلم” . السؤال التقريري والإجابة المستنكرة أوردهما “هـ . ج . كريل” مؤلف كتاب “الفكر الصيني من كونفوشيوس إلى ماو تسي يونغ” ..!
هنا قد يتساءل المرء ما الذي سبق الآخر يا ترى؟!. هل عزلة الشعب الصيني هي السبب في شعوره الدائم بالاعتزاز بثقافته، أم أن اعتزاز الصينيين بثقافتهم الفريدة هو السبب وراء عزلتهم التاريخية ..؟!
بعض الإجابة قد نجدها مضمنة في الاقتباس التالي – من كتاب “الديموقراطية الحديثة” -للزعيم الصيني ماو تسي يونغ: “إن الصين الشيوعية في تطويرها لثقافتها الجديدة سوف تقبل على مضض ببعض الثقافة الرأسمالية، لكنها ستعمل دوماً على إدراك الفوارق”. ولعل هذا هو سر “إكسير خلود” الحزب الشيوعي الصيني الذي تميز بدعوته إلى توحيد الطبقات المعارضة للإمبريالية، وأعلن وقوفه الدائم مع نضال الشعوب التي تتحدى النظام الرأسمالي. لا غرابة إذاً – والحال كذلك – في نشوء صداقة فكرية بين شيوعيِّي الصين وإسلامويِّي السودان ..!
وليس سراً أن اتفاقاً – لطيفاً! – كان قائماً بين الحزب الشيوعي الصيني وحزب المؤتمر الوطني السوداني، تواضع الطرفان بموجبه على تطوير الكادر الحزبي “أن يقوم الأول بتدريس الأخير أقصر طريق للوصول إلى معادلة الخلود السياسي” ..!
وللحق – والحق يقال! – فقد قدم الشيوعي الصيني لصديقه المؤتمر الوطني نصائح غالية، ومعلَّقات سياسية ثمينة كانت تستحق أن تكتب بماء الذهب، وأن تعلق على جدار غرفة نوم كل كادر حزبي في المؤتمر الوطني، ولكن من يبالي ومن يتعظ ..!
الرفقاء” قدموا للإخوان باقة من الحكم والعبر الكونفشيوسية الثرية، فنصحوهم بأن يستوصوا بهذا الشعب خيراً، فهو الذي حمل سفينتهم طيلة عقود وهو الذي يملك – أيضاً – أن يغرقها في شبر أزمة سلعة، أو ثورة خبز، إن هو شاء، وقد شاء، فأغرقها بمشيئة الله ..!
ثم أنهم قد حثوهم على أن يسارعوا إلى محاسبة المفسدين والفاسدين من أعضاء هذا الحزب، وأن يبادروا بثورة إصلاح وترميم قبل فوات الأوان، وأن يضبطوا فكر كوادرهم على موجة تطلعات شعبهم، والأهم من ذلك كله أنهم قد أكدوا لهم على “وجوب الاعتراف بالفساد وضرورة التسليم بالأخطاء”. وكل هذا جميل ومؤثر، وهو – كما ترى – كلام زي الورد. ولكن الإخوان كانوا في شغلٍ شاغل عن العمل بنصائح الرفقاء ..!
المدهش حقاً أن تلك النصائح الصينية كانت حاضرة بحذافيرها في أرشيف فكر الإخوان المسلمين، ومضمنة بسخاء في أضابير فقه الحكم ومتون الإسلام السياسي، وهي حجر الزاوية لمبادئ الإسلام السياسي الذي انطلقت منه الجماعة بادئ ذي بدء. وهي – قبل ذلك كله – من سنن رسولنا الكريم الذي ورد عنه ذكر الصين في الحديث مشهور المتن، ضعيف السند (اطلبوا العلم ولو في الصين)، لكنه لم يقل لنا – أبداً – إن عليكم ألا تطلبوه في غيرها ..!
على كل حال، الحكمة هي ضالة المؤمن أنَّى وجدها، في الصين أو في غيرها. والعبرة لم تكن في اتباع الإخوان لسنن الرفقاء “حذو القذة بالقذة”، بل بالنجاح تلو النجاح في امتحان القدرات السياسية، والثبات على صراط “المَعقُوليَّة” في معاملة هذا الشعب الأبي، الكريم، العظيم، الذي امتحن كفاءتهم بقدر ما امتحنوا صبره، لكنهم رسبوا، وعند الامتحان يكرم المرء أو يهان ..!