تمضى ثلاثة أعوام على ثورة ديسمبر المجيدة التي خلدت اسمها من نور على صفحات التاريخ ، ثورة استمدت عظمتها وصبرها وشموخها من هذا الشعب العظيم ، حققت انتصارها بأنها كانت العصاة التي هزمت المستحيل وأزالت نظام دكتاتوريا فاسداً ، واعترضت مسيرة استمرت ثلاثين عاما كان قادة النظام فيها يظنون ان كذباتهم لن تنكشف لطالما ان الله اطال في عمر نظامهم ، ومد في آجال حكمهم وأصابهم التيه والغرور وفات عليهم ، أن كل الإمبراطوريات لم تنهار عروشها إلا بعد ان بلغت من القوة مبلغاً ، وسكن قلوب اصحابها هذا الشعور ، حتى يكون للذل معنى وما اصعب شعور الذل بعد الغرور وجاءت ديسمبر المجيدة وكتبت ميلاد جديد ، لشعب ظل يطالب بالمدنية ويحلم بالتغيير واصبح يقالد هذا الحلم في منامه ويقظته ودفع اغلى ماعنده من غالي ونفيس وقدم الشباب ارواحهم ثمناً لهذا ، كانوا ومازالوا على العهد ويتشبثون به الى الأبد .
ولكن ولكي نضع متاريس فاصلة بين احلامنا وواقعنا دعونا نقف على ماحققته الثورة في غضون هذه السنوات الثلاث ، فالثورة عظمتها ونجاحها وتميزها يترجمه استمرارها واتقادها وجذوتها ، وصبر شبابها وعزيمتهم ، في وقت كان ثمة الف سبب وعلة قادرة على اخماد نيرانها المشتعلة ولكنها عجزت عن ذلك ، لم يخيفها السلاح ولم يغريها المال ولم يهزمها التآمر ولم يغلبها الخذلان ، لم تفتر من الهتاف بمطالبها رغم عبث المثبطين ، اثبتت في كل المواكب أنها الكلمة والقرار وان القلم مازال بيدها تكتب ماتريد وقت ماتشاء ، إن عاندها الحظ او حالفها في ان تحقق كل أحلامها لأنها هي من تصنع الحلم وهي من تحققه.
فالمتاريس الفاصلة بين احلامنا وواقعنا تكشف اننا اصحاب اعظم ثورة ، بلغت تمامها دون ان يشوبها عيب ولاعلة ، ولكن خذلها الذين تولوا امرها ، منذ البداية الذين كانوا جزء من الشارع يحفظون شعاراته عن ظهر قلب لكنهم ظلوا يرددون ذات الشعارات عندما اصبحوا اصحاب القرار في الدولة ، فالشارع لا يريد منك عندما تتيح لك الفرصة لمخاطبته ان تردد له شعار الحرية والسلام والعدالة ، الشارع يريد ان يرى هذا الشعار واقعا ملموساً يعيشه ويتنسمه ، حتى يكون هناك فرق بينك وبينه ، هو لايحتاج منك النفخ على نار الثورة لانها كانت وستظل مشتعلة هو يريدك ان تنصر ثورته بقرار لا هتاف فثورة لم تحقق سلامها لطالما انه جاء منقوصاً وحتى بعض قادته عندما اتيحت لهم اول فرصة للتآمر إنحازوا للانقلاب عليها ، ولم يكونوا لها سندا لمناصرتها !
وظلت العدالة مطلب سجين فمازال القضاء كفة ميزانه اثقل من الأخرى ، والنيابات تكتب في محاضرها ماتريده مناسبا وليس ماتراه مناسباً ، مازلنا نطالب بمحاكمة قتلة الشهيد احمد الخير ، ومازال البرلمان ( يسكنه الطير ) ، لجنة اديب نائمة ، والفلول يحتفظون بمواقعهم بالمؤسسات ، مازالت الاجهزة الاعلامية الرسمية كسيحة ، وكاميرا التلفزيون استبدلت إطلالة البشير بإطلالة حميدتي ، لذلك لابد من ان نحتفل بميلاد الثورة وكأن الله رزقنا بهذا المولود اليوم ، لأننا ومنذ سقوط النظام ، جهلنا قيمة مانملك ، كنا نملك كل ادوات التغيير لوحدنا والتي كانت ستصنع لنا واقعاً جميلاً، ولكننا اخطأنا عندما أسقطنا البشير ، وعقدنا شراكة مع لجنته الأمنية ، عندما استبدلنا تلك الوجوه بهذه التي لا فرق بينها وبين المخلوع ، عندما اردناها مدنية وقبلنا بها عسكرية.
ثلاث سنوات والبرهان رئيسا للمجلس السيادي في حكومة الثورة ، وقائد الدعم السريع نائبا له ، ثلاث سنوات بعد ان ظننا أننا طوينا عهد القمع والظلم ، والندوات السياسية تتم مهاجمتها لحجر حرية التعبير ، ليلحق شعار الحرية بالسلام والعدالة ، ويشاركها خاصية البؤس والنقصان ، لذلك هو ليس احتفال بمرور ثلاث سنوات هو ميلاد من جديد لثورة لابد من ان تعيد كل شئ ، حتى تبلغ غاياتها وتصنع مشهداً جديدا ، لابد من تغيير هذه الصورة الضبابية القاتمة التي لاتشبه الثورة ولاتليق بأشراقها ، والديسمبريون قادمون وقادرون على كتابة صفحة جديدة بحبر جديد لواقع جديد حتى لو دعاهم ذلك لتمزيق كل الصفحات السابقة ، فليسقط كل الذين يقفون عقبة على طريقها.