صحيفة كورة سودانية الإلكترونية

سودانيتي هويتي

14

زاوية غائمة
جعفر عباس
سودانيتي هويتي

‏‏‏‏
على مدى سنوات اغترابي الطويلة عن وطني، خالطت أجناسا وأقواما من جميع القارات، ولي أصدقاء من عدد من الجنسيات معظمهم عرب مسلمون أو مسيحيون، نعم مسيحيون، فالمسيحيون العرب مثلي مثلك في كل شيء تقريبا، وقد تفترق بنا الطرق يومي الجمعة والأحد، ومعظم السودانيين الذي نشأوا في مدن كبيرة لديهم صلات قوية بمسيحيين أقباط، إما بحكم الجيرة أو زمالة العمل والدراسة، أو من خلال التعامل اليومي في الأسواق، وحكى لي قبطي سوداني أن أمه كانت تطالبهم بالسكوت التام عند سماع الآذان.
عندما أعود إلى الوطن في إجازة أسمع كثيرا ناصحا يقول لي: مالك والغربة الطويلة في منطقة الخليج، حيث الكفيل يتحكم في حياتك وربما يسيء معاملتك، ويكون ردي على ذلك المرة تلو الأخرى بما معناها ان أقسى شيء على النفس أن تكون غريبا داخل وطنك، ثم أضيف صادقا أنني لم أسمع خليجيا يذكر السودانيين إلا بالخير، وأنه حتى النكات التي يطلقونها عن كسل السودانيين هي نوع من المزاح يأتي في إطار التحرش الحميد، وأن قسوة الكفلاء تعميم ظالم، فكما أن هناك سودانيا بلطجيا ومستهبلا وعصبيا وغير أمين فهناك كفيل خليجي ظالم و»مفتري«.
ظللت طوال أكثر من أسبوع أكتب عن شخصيات تركت أثرا عميقا في نفسي، إما بجميل أو قبيح أفعالها وأقوالها وصنيعها، ولكن -وإجمالا- فإن الانتماء إلى السودان هو الأثر الباقي والأقوى في حياتي، فرغم أنني عشت معظم سنوات عمري خارج السودان، فإنني -وأنا حر- لم أجد أناسا أقرب إلى قلبي من بني وطني، ولا أعني بذلك أقاربي وأصدقائي ومعارفي منهم، بل السودانيين من طرف، وقد أدى فساد الحكم في السودان واضطراب الأحوال فيه إلى خلل مريع في القيم، وظهور سلوكيات يراها أبناء وبنات جيلنا غريبة على مجتمعنا، ولكنني وبالتجربة والمعايشة مقتنع بأن جوهر الانسان السوداني مازال نقيا وأنه وفي ساعة »العوزة«، وعندما يوضع على محك ما، ذو مروءة ونبل وشهامة.
كل إنسان سوي يفتخر بوطنه ويحب بني وطنه، أقول هذا وأنا أعرف كثيرين يقولون عن أوطانهم إنها »زفت«، ولكنني لا اعتقد ان ذلك ينم عن كره للوطن بقدر ما هو ضيق بالحال الزفت الذي يعيش فيه الوطن، وكثير من أوطاننا، ومن بينها السودان حالتها تتدهور من زفت إلى أزفت، ولكن الوطن ليس وظيفة أو زوجا أو صديقا أو فندقا أو مكان عمل تزهج منه وتسعى لـ»تغييره«، فالوطن مثل الأم والأب، لم تختر أي منهما طوعا، ومع هذا لا يمكن »تغييره أو استبداله« وتهاجر إلى بلد ما وتنال جنسيته ولكن الوطن الأم )لاحظ كيف نربط في كلامنا بين الأمومة والوطن( يبقى في الوجدان كالحبيب الأول.
واعتبر ذروة المدح ان يقول عني أحدهم إنني سوداني أصيل، ورغم اننا قوم »أشتات« نتكلم بنحو مائة لسان وتختلف سحننا باختلاف مواقع أقاليمنا، فإن هناك قواسم مشتركة كثيرة بين هذه الأقوام، ويكفي في التدليل على ذلك أن سودانيي كل الأصقاع يقولون عن الشخص عديم المروءة ومن يأتي سلوكا شائنا: أنت مش سوداني، وصحيح اننا ومثل كثير من الشعوب نتباهى بما فينا وليس فينا، ولكن و»إجمالا« فإنني ما زلت اعتقد ان فينا خيرا كثيرا.
وأعرف أن هناك من سيقول: بذمتك ماذا في السودان غير الضائقة المعيشية والفقر والحروب والظلم حتى تنظم المواويل في حبه؟ وأرد على ذلك بسؤال: هل تنفر من أمك لأنها شاخت وأصابها الخرف، أو من زوجتك لأنها صارت عجوزا شمطاء؟ إذا كنت تعرف الوفاء فإنك لا تتنكر لمن تحب مهما ساءت حاله؛ وحال الوطن يسوء بقبيح أفعال بعض أهله، فهم -وليس الوطن- من ينبغي ان تشعر نحوهم بالنفور، بل حتى وأن تتبرأ منهم، ولكنك لن تستطيع التبرؤ من الوطن حتى لو ضاق بك وضقت به لسبب أو لآخر.

قد يعجبك أيضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبولقراءة المزيد