مدخل:
التكنولوجيا الحديثة تُبدِع في تصميم الأسلحة الذكية، التي تُصيب الهدفَ في ذاته دون إلحاقِ الضَّرر بغير المراد.
كذلك الأدوية الذكيَّة تُستخدم في علاج الأمراض الخطيرة، وتُعدُّ بطريقة تمكِّنها من تجنُّبِ الإضرار بالخلايا السليمة، في رحلة استهداف الخلايا المريضة.
وكذلك العقوبات الذكيَّة في السياسة الدولية، الهدفُ منها حصر آثار العقوبات في نطاق مُحدَّد دون المساس بمن هم خارج دائرة العقوبة.
-1-
من أخطر الظَّواهر السالبة التي أفرزتها الأزمة الاقتصادية، فقدان الثِّقة في النِّظام المصرفي.
غالب المواطنين أصبحوا لا يرغبون في التَّعامل مع المصارف التي تحتجز أموالهم بوضع اليد، ولا تردُّها إليهم وقت الطلب وعند الحاجة.
مشاهد الزحام في البنوك، والصُّفوف المُمتدَّة أمام الصرافات الآلية، تعكس حالةً بالغةَ السوء عن علاقة المواطن بالمصارف.
-2-
كان بإمكان الحكومة أن تفرض السيطرةً على السيولة النقديَّة، بإجراءات أكثر ذكاءً وحكمة، وأقلَّ قسوةً وتعنُّتاً.
كان بإمكان الحكومة، أن تقضي على التَّجاوزات داخل المصارف عبر عقوبات تستهدف المُخطئ، ولا تُلْحِقُ ضرراً بصورةِ المصرف وسُمعته.
لو أن الحكومة مضَتْ في خيارها الأول، وقامت بتغيير العُملة من فئة الخمسين جنيهاً على نهج التجربة الهندية؛ لكانَتْ الفوائد أكثر والخسائر أقل، والتَّكلفة السياسيَّة في حدود الصِّفر.
-3-
الغرض الواضح من سياسة حجز السيولة النقدية، السَّيطرة على التضخُّم والحدُّ من شراء العملات الأجنبية، ومنع استخدامها كمستودع للقيمة، وساحة للمضاربات.
ماذا كانت النتائج؟ التضخُّم في ارتفاع مُستمرٌّ وسعر العملات الأجنبية في تصاعدٍ مُطَّرد، رغم شُحِّ السيولة، وقيمة العملة المحلية في انخفاض كارثي!
-4-
كان الاقتصاد يُعاني من وجود سعرَيْن للعملة الأجنبية، وأصبحت لها أكثر من ثلاثة أسعار.
كانت الأزمة مُتعلِّقةً بالعُملات الأجنبيَّة، فإذا بها تُمسكُ بتلابيب العُملة المحليَّة التي تحوَّلت كذلك إلى سلعةٍ ملعونةٍ ومسكونةٍ بشياطين الرِّبا…كان هدف السياسة الأخيرة، وتكوين آلية لتحديد السعر الصرف الواقعي، وفقاً للعرض والطلب؛ إخراجَ تُجَّار السوق الأسود من الأزقة الضيقة إلى ساحات النور الفسيحة.. ماذا حدث؟
-5-
احتفظ تُجَّار الدولار بأنشطة الأزقَّة المُظلمة، وسيطروا على الساحات المُضيئة، وتركوا للجنة الآلية غرفة صغيرةً للنوم والسكينة، مع التَّمنيَّات بأحلامٍ سعيدة!
-6-
عندما تُؤدِّي المُقدِّمات إلى نتائج مُناقضة للأهداف، فإنَّ الأمر يحتاج إلى إعادة فحص الفكرة في الأساس، ومُراجعة أدوات التنفيذ.
عندما تكون الآثار الجانبية للدواء أكثر خطورةً على المريض من المرض، فلا بدَّ من توقيف خطة العلاج، وإضاءة الإشارة الحمراء لتغيير المسار.
-7-
قبل مُراجعة مُجمل السياسات الاقتصادية، لا بدَّ من العمل الجادِّ والسريع لإعادة الثقة في الجهاز المصرفي.
لن تنجح سياساتٌ اقتصاديَّةٌ في ظلِّ وجود جهازٍ مصرفيٍّ معطوبٍ ومليءٍ بالثقوب ومُثقَلٍ بالظنون السيئة.
تلقَّى الجهاز المصرفي ضربتين :
الأولى / من السياسات الاقتصادية وما ترتَّب عليها من مُعاناة وغُبن.
الثانية / من شعارات مُكافحة الفساد التي لم تنتهِ إلى شيء ذي قيمةٍ ماليَّةٍ أو أخلاقيَّة.
-8-
حينما تفاعلنا صحفيَّاً مع الاتهامات المُوجَّهة لقيادي ببنك الخرطوم، شيخ المصارف السودانية، جاءت التسوية معه أقلَّ من كل التوقعات.
لاحقاً، تمَّتْ إقالة المدير العام الأجنبي، دون حيثيَّات.
وأطلَّ جرَّاء ذلك سؤالٌ مُهم: إذا ارتكب تجاوزاتٍ فلماذا لم يُحاسب، وإذا لم يرتكب فلماذا تمَّ الاستغناء عنه رغم كُلِّ المُؤشِّرات الرَّقميَّة التي تُوضِّح أن البنك يُعتبر الأنجح والأكثر تميُّزاً من بين كُلِّ المصارف السودانيَّة؟!
-9-
نعم، ما حدث قد حدث، ولكن لا بدَّ أن تسعى الحكومة اليوم قبل الغد، بكُلِّ السُّبل، لجبر الضَّرر الذي لحق بالقطاع المصرفي عموماً، وفي مُقدِّمته المصارف الناجحة، مثل بنك الخرطوم وفيصل؛ فالآن على إدارتيهما كفاءات وطنية تستحقُّ الدَّعم والإسناد لتجاوز كُلِّ ما سبق.
بنك الخرطوم يُعَدُّ أكبر بنكٍ سودانيٍّ له فروع وعملاء.
وبنك فيصل يُعتبر أكثر بنك سوداني له حصائل صادر.
والاثنان لديهما أضخمُ شركاتٍ تعمل في السودان، برأسمال يتجاوز مئات الملايين من الدُّولارات.
البنكان يُشكِّلان عصب القطاع المصرفي بالبلاد.. وعافيتُهما في عافية البنوك السودانية.
أضف إلى ذلك أن هذين المصرفَيْن ارتبطَا باستثماراتٍ أجنبيَّة ناجحة، تجاوَزَتْ كُلَّ العقبات والصعاب من أجل العمل في السودان، على الأقل يجب أن تتلقَّى رسالة واضحة بالأقوال والأفعال: أن استثماراتها في مكان آمن.