)1(
الذين اطلعوا على تجربة نميري الإسلامية في السودان اطلاعاً دقيقاً والذين عَاصروها بوعي، يدركون أنّ النميري عندما طبّق قوانين الشريعة 1983 التي اصطلح على تَسميتها بقوانين سبتمبر لم يكن بدافعٍ موضوعي، إنّما بدافع ذاتي وهو الخُرُوج من أزمة سياسية، لا بل حتى الحركة الإسلامية التي تجلس إلى جانب النميري في دولاب الحكم كان مَطلبها الدستور الإسلامي وليس الشريعة الإسلامية.
فالدستور عبارة عن مبادئ فضفاضة يُمكن الجدل فيها، أمّا الشريعة فهي قوانين مُفصّلة ومُحدّدة، فلو اصطحبنا دافع النميري لتطبيق الشريعة، يُمكننا أن نفهم لماذا جاء التطبيق مُشوّهاً ومُجافياً لبعض مبادئ الإسلام، لذلك بدأ النميري في التّراجع عن ذلك التّوجُّه برمته، فقد قَرّرَ العودة إلى الضرائب بعد أن ألغاها مُعتمداً على الزكاة فقط، ثُمّ حل محاكم العدالة النّاجزة وهاجم قُضاتها هُجُوماً عنيفاً، والأهم أنّه اعتقل قيادات التّيّار الإسلامي على رأسهم الترابي وأَعَادَ خَصمهم الإسلامي المعروف الرشيد الطاهر بكر للواجهة، وقد كَانَ الرشيد من المُتحفِّظين إن لم نقل من الرّافضين لذلك التّوجُّه ولتلك القوانين.
المُهم في الأمر أنّ كل الدلائل كانت تُشير إلى أنّ النميري كان في طريقه إلى إلغاء تلك القوانين.
)2(
قبل أن يقدم نميري على تلك الخطوة المُشار إليها، حَانَ موعد فُحُوصَاته الدّوري، وقرّر السفر إلى أمريكا، وقد طَلَبَ من مُستشاريه تجهيز فتوى تثبت أنّ حركة الإسلام السِّياسي حركة خارجة تجب مُحاربتها )القصد كان واضحاً(، وهو في الطريق للمطار اندلعت التظاهرات التي شَكّلَت فيما بعد انتفاضة أبريل وكان البُعد الخارجي واضحاً فيها )انظر مُذكّرات إبراهيم منعم منصور(، وكان واضحاً أنّ تغييب نميري عن المسرح هو القَشّة التي سوف تقصم ظهره، وهنا تَدَخّلَ مسؤولٌ مايويٌّ كبيرٌ وقال للأمريكان إنّ قوانين سبتمبر سوف تعيق أيِّ حكومة قادمة ولن يجرؤ حاكمٌ على إلغائها، والشخص الوحيد الذي يُمكن أن يفعل ذلك هو الرئيس نميري، فأعطوه فُرصة ليعود إلى البلاد وستجدونه جاهزاً حتى للخُرُوج من الدين نفسه إذا أردتم ذلك )هنا أوردنا المعنى لأنّ العبارة التي استخدمها كانت قوية شوية(، ولكنهم لم يعبأوا بنصيحة ذلك المسؤول فواصلوا دعمهم للانتفاضة فكان ما كان.
)3(
إنّ قاعدة من كان جُزءاً من الأزمة لن يكون جُزءاً من حلها قاعدة ليست صحيحة على إطلاقها، لا بل العكس قد يكون صحيحاً أيضاً، ولعلّ علم الطب يثبت ذلك، فاسألوا عُلماء الطب عن عملية التّطعيم لتصلوا الى ما يثبت أنّ من الطرق الناجعة لحل أيِّ أزمة هو أن تسلك الطرق التي أدّت إليها وليس بالضرورة أن نصل مرحلة )داوني بالتي كَانت هي الدَّاء( أو المثل الذي يقول )أبو القدح بيعرف كيف يعضي رفيقه(!!
على العُمُوم الشرح الكثير في )الحِتّة دِي( قد يكون غير مطلوبٍ، ولكن الذي نرمي إليه هو تجنُّب البلاد مخاطر البداية من المجهول، وأن نأخذ بسنة التّدرُّج، وأنّه إذا ثَبَتَ لنا أنّ الفترة الانتقالية يُمكن أن تؤدي المطلوب فلا داعي للإصرار على حكومة انتقالية من )قولة تيت(، وأن الثورة تُعتبر ناجحة إذا فتحت الطريق نحو الإصلاح، وان… وان… وان… وأنا ما بَفَسِّر وإنت ما تقصِّر..!