-1-
زُرتُه قبل أيَّام بمُستشفى رويال كير، فوجدته بجلبابه الأبيض وابتسامته الناصعة وتواضعه الجم، أمامه مجموعة من الصحف اليومية.
كان مولانا بروفيسور حيدر أحمد دفع الله، وسط عناية أُسرته الصغيرة ومُودَّة زائريه، ورغم علَّته المرضية، لم تنقص بشاشتُه ورحابتُه بكُلِّ زائرٍ يأتي إليه.
-2-
حكى لي تفاصيل رحلته العملية الشاقَّة إلى ولاية نهر النيل.
وكيف قطع مسافةً طويلةً برجليه في معيَّة مُرافقيه ومُستقبليه، ورغم شعوره بالتَّعب والإرهاق تحامل على نفسه وأكمل المشوار.
لم يكتفِ مولانا حيدر بالبرنامج العملي المُعدِّ سلفاً، ولكنَّه استجاب لدعوات اجتماعية ما كان له أن يرفضها، حتى لا يكسر خاطر أهله الذين يعزُّهم ويحفظ ودَّهم.
حينما عاد من تلك الرحلة الشاقَّة، بدأ يشعر بالإعياء وآلام الصدر، التي تُنذِرُ بالخطر.
وقتها قرَّر مولانا حيدر أن يذهب إلى منزله، حتى لا يُزعِجَ أُسرته، ومن هناك توجَّه إلى المُستشفى.
-3-
كان يحكي كُلَّ ذلك، والابتسامة لا تُغادر وجهه الصبوح. عرَّفني بالأسرة، ورغم رغبتي في البقاء معه لأطول فترة، لكنَّني قرَّرتُ المُغادرة حتى لا أُثقل عليه وأدعه يخلد للراحة، فقد كان يتحدَّث معي وهو جالسٌ على المقعد، ويرفض الاسترخاء على الفراش الأبيض.
كثيرٌ من المسؤولين من أصحاب الهمَّة العالية، في زياراتهم للولايات، تُفرَضُ عليهم برامج شاقَّة لا تُراعي ظروفهم الصحية والعُمْرية، فيستجيبون لها تقديراً لمشاعر مُستقبليهم.
-4-
أكثرُ ما كان يُميِّزُ الرَّاحل رغم منصبه الرفيع ومعارفه الأكاديمية والمهنية الواسعة، ذلك التواضع الجمُّ والرَّحابة الريفيَّة في التعامل مع الآخرين، دون تمييزٍ بين صغير وكبير، أو فقير وغني، أو مسؤول أو مُواطن، تجده من أوائل الحاضرين في المناسبات الاجتماعية، ورقم هاتفه مُتاحٌ للجميع في كُلِّ الأوقات.
-5-
تعرَّفتُ عليه أوَّل مرَّةٍ قبل سنوات أثناء مُشاركته في لجنة تحقيق شكَّلها رئيسُ القضاء السابق عن تجاوزاتٍ أثرناها بصحيفة )السوداني( ضدَّ مُستشارٍ رفيع بوزارة العدل.
منذُ تلك المعرفة، توطَّدت علاقتي به، وكثيراً ما يدعوني لمُناسبات القضائية، وتدور بيننا حواراتٌ هاتفيةٌ حول بعض القضايا العامة.
كان مولانا حيدر رجلاً سمحَ النفس عميقَ التجربة، تلك التجربة المسنودة بمعرفةٍ واسعةٍ وثقافةٍ شاملةٍ وإحاطةٍ قانونيةٍ تُخبِرُ عنها سيرتُه الذاتيَّة التي أهَّلتْه لتقلُّد أهمِّ منصبٍ عدليٍّ في البلاد: رئاسة القضاء.
-6-
تلقَّيتُ أمس، اتصالاً هاتفياً صباحياً من السيد جمال الوالي، الموجود حاليَّاً بالمملكة العربية السعودية، يُخبرني بالخبر الفاجع: رحل عن دنيانا الفانية إلى الدار الآخرة مولانا حيدر.
نشهد له بنقاء السريرة، وحُلو المعشر، وقد رفد القانون بكثيرٍ من الكُتب والمُؤلَّفات والدراسات حتى ينتفع الناس بعلمه ومعارفه.
نبتهل إلى الله تعالى أن يرحمه رحمةً واسعة، ويغسله بالماء والثلج والبرد، وأن يُنقِّيَه من الخطايا كما يُنقَّى الثوب الأبيض من الدَّنس، وأن يُجزيَه بالحسنات إحساناً، وبالسيئات رحمةً وغفراناً، وأن يُبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وأن يُسكِنه فسيح جناته بين الصديقين والشهداء، وحسن أولئك رفيقاً.
تعازينا موصولةٌ إلى أُسرتيه الصغيرة والكبيرة، وكُلِّ أقاربه وأصدقائه وزملائه وأهل القانون جميعاً، نسأل الله أن يُلهمهم الله الصبر والسلوان.
)إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ(