*تعمدتُ التريث قبل تناول حادثة حرق مشروع أبو نعامة الزراعي في ولاية سنار، سعياً إلى استجلاء الحقائق، ومعرفة الأسباب التي دفعت بعض مواطني المنطقة إلى التعبير عن رفضهم للمشروع بالحرق والإتلاف، بدلاً من اتخاذ الإجراءات الكفيلة بحفظ الحقوق، بقوة القانون، لا بقانون القوة.
*في البدء نتساءل: ما فائدة إنشاء وزارات وأجهزة حكومية وأمنية وعدلية وقضائية، ولماذا تنهك الدولة نفسها في سن القوانين، إذا لجأ كل متظلمٍ إلى أخذ حقه بعضله، ليحطم ويتلف ويحرق ويدمر كيفما شاء؟
*لم أَجد في كل المسوغات التي طرحها مَن تعدوا على المشروع ما يقنعني بصحة موقفهم، وسلامة فعلهم، الذي أنتج خراباً فاقت كلفته الآنية عشرين مليون دولار، مرشحة للارتفاع، تبعاً للخسائر المرتقبة، نتاجاً لتوقف العمل في مشروعٍ يوفر وظائف ثابتة لخمسمائة شخصٍ، وأخرى موسمية لأكثر من أربعة آلاف فرد، بخلاف فاقد عوائد صادرات المشروع من القطن للعام الحالي وما يليه، وكلفة محصولٍ لم يُحصد بعد، وخدماتٍ تُقدم للآلاف، باتت مرشحة للضياع.
*مشروع تبلغ مساحته (35) ألف فدان، ويخدم تسع قرى، وبه حوالى (90) كيلومتراً من التُّرع التي تسهم في سقيا الإنسان والحيوان، ومدينة سكنية تضم مدرسةً ومستشفىً يحوي (72) سريراً، ومسجداً وعشرات الكيلومترات من الطرق الممهدة.. كيف يتم حرقه هكذا، لتتحول آلياته ومعداته ومكاتبه ومستودعاته وورشه إلى حطام ورماد في دقائق معدودة، استناداً إلى ادعاء لم تثبت صحته بعد؟
*تم التحقق من عدم وجود آثار سالبة للمبيد المستخدم في مكافحة الآفات، بعد أن أوقفت حكومة الولاية العمل في المشروع بالكامل، وعطلت العمليات الزراعية، وأغلقت المكاتب والمخازن والورش، وألزمت الجهات المختصة بأخذ عينات من المياه والتربة والمحصول، وأخضعتها إلى التحليل، وأمرت باتخاذ المزيد من إجراءات السلامة، حول ترتيبات حفظ المبيدات وطريقة استخدامها، قبل أن تسمح بمعاودة العمل، بعد أن ثبتت لها سلامة المبيد، سيما وأنه ليس جديداً، ويتم استخدامه في معظم المشاريع الزراعية بالسودان، ولم يُعرف عنه التسبب في الأضرار التي يدعيها من بادروا بحرق التراكتورات والمكاتب وبقية المباني والمستودعات وحاصدات القطن، بفعل أرعن يشكل جريمةً مروعة، يعاقب عليها القانون.
*حتى لو سلمنا بصحة الدعاوى المشاعة حول المبيد وأضراره، فهل نُقر نهج التدمير والحرق، بدلاً من الاجتهاد لإثبات الضرر وجبره بالقانون؟
*المشروع مملوك في غالبه لرجل الأعمال معاوية البرير، الذي أرسى تجارب ناجحة، تستحق التنويه في مجال الزراعة التشاركية بمناطق واسعة من ولايات النيل الأبيض وسنار والجزيرة، عادت بالنفع على عشرات الآلاف من المزارعين، لتعوِّض إحجام الدولة ومصارفها التجارية عن تمويلهم.
*ما حدث لمشروع أبو نعامة ستكون له آثار كارثية على مناخ الاستثمار، الموبوء بالتعديات، المُبتلى بتهجم بعض الأهالي على المستثمرين، بما يكفي لتنفيرهم، ودفعهم إلى تحويل أموالهم إلى دولٍ أخرى، تحفظ هيبتها، وتحمي المشروعات المماثلة من التحول إلى رماد، وتوفر فرص استثمار آمنة، بات الحصول عليها في السودان حلماً صعب المنال، تبعاً لشيوع ثقافة تعدي الأهالي على المستثمرين.
*كيف نترقب من بلادنا أن تتجاوز أزمتها الاقتصادية الحالية، طالما أن علاقات الاستثمار فيها تقوم على الفوضى والحرق والتعدي والإتلاف، لتوقف الإنتاج المتدني أصلاً، وتخفض قيمة صادراتٍ محصورة في أقل من ثلاثة مليارات دولار، لدولة تمتلك مقوماتٍ طبيعيةَ، لا تتوافر لدولٍ عظمى؟
*من يستثمر أمواله في الزراعة، ويصطحب معه آلاف المواطنين، ويوفر لهم الخدمات، ويبني المدارس والمستشفيات، ويمهد الطُّرق يُعاقب بالإتلاف والحرق ويتكبّد خسائر مهولة، ومن يضاربون في الدولار والعقار، ويمارسون أنشطة طفيلية لا تعود على البلاد بأي نفع يعملون آمنين مطمئنين، ويجنون أرباحاً فاحشةً، لا يدفعون منها مليماً واحداً للدولة.
*صححوا تلك الصورة المقلوبة فوراً، وأوقفوا الفوضى، وحاسبوا من يتّبعون أساليب الغاب، ويتوهمون أن الحرية قرينة الانفلات، أما الأخ معاوية البرير فنقول له أجر وكفارة (ما يغشاك شر)، وندعو المولى عزّ وجلّ أن يخلف عليه ما يعوِّض خسائره، ويمكنه من استئناف عمله الناجح، وسعيه الفالح، واستثمار أمواله في مناخٍ آمن، يفيده ويحقق النفع للعباد والبلاد والاقتصاد.