يبدو أننا نجيد تكرار (أخطاء) الماضي.. في العام 1985 وبعد يوم واحد من انتصار انتفاضة الشعب في 6 أبريل.. صدرت الصحف بعنوان عريض (تصفية جهاز الأمن العام)، وكان ذلك اسمه.. هكذا ضربة واحدة أطاحت بكل منظومة أسرار الدولة.. وتبارت الأحزاب والصحف بعد ذلك في نبش الجثة وبعثرة الأوراق.. بل وأكثر من ذلك وجد عشرات العملاء الذين نجح الجهاز في زرعهم خارج السودان في مؤسسات إقليمية ذات صلة بمصالح السودان، وجدوا أنفسهم فجأة معلقين في الهواء.. وانهارت المنظومة الأمنية في السودان وانتهزت الفرصة بعض المنظمات الأجنبية فنفذوا عملية إرهابية جريئة في قلب الخرطوم.. في فندق “الاكربول” وقتلوا بعض نزلائه..
وبعد أن طارت السكرة وجاءت الفكرة واكتشف الجميع فداحة الخسارة من هذا القرار المحمول على رافعة “الغبن” لا أكثر.. بدأ الجميع التنصل من مسؤولية القرار.. الصحفية الأستاذة حنان بدوي بصحيفة “السوداني” عام 2007 نشرت تحقيقاً استقصائياً ليجيب على سؤال واحد (من حل جهاز الأمن العام) واستنطقت كل القيادات الأمنية والسياسية والعسكرية وفشلت في الحصول على إجابة.. فالجميع أنكروا.. واتضح أنه قرار (مجهول الأبوين).. فللنجاح ألف أب.. وللفشل ألف ناكر للأبوة..
الآن يبدو أن التاريخ يعيد نفسه.. صدر قرار بتحويل اسم (جهاز الأمن والمخابرات الوطني) إلى ( جهاز المخابرات العامة).. وقيل أن مهامه تحولت فقط إلى (جمع المعلومات!!!!!) أي أن يصبح مجرد جهاز (كشافة).. بالله عليكم أعطوني اسم دولة واحدة في الكرة الأرضية مهمة جهاز أمنها تحصيل المعلومات!! أمريكا مثلاً.. هل مهمة وكالة المخابرات المركزية CIA جمع المعلومات فقط؟ هل مهمة مكتب التحقيقات الفيدرالية FBI جمع المعلومات فقط؟
جهاز الأمن لا يملكه البشير ولا صلاح قوش ولا دمبلاب.. هذه أجهزة الشعب السوداني.. وكل هذه الأسماء انتقالية تعبر بوابة الجهاز وتذهب.. ويبقى الجهاز (المؤسسة) بكل من وما فيه ملك خالص للدولة السودانية..
لا ينكر أحد إفراط الجهاز في دهس حقوق الإنسان بممارسات ستخضع للتحقيق والمحاسبة.. لكن هذه تصرفات أفراد فحتى لو انتهى الأمر بتبديل كامل قوة الجهاز فلا ضير.. لكن الجهاز نفسه، المؤسسة، فلا عاقل يرضى أن ينكشف ظهر البلاد كما حدث في العام 1985..
في الباكستان تعاقبت الحكومات والنظم السياسية ومارست في حق بعضها أقصى درجات العنف الذي وصل مرحلة التصفية الجسدية للقيادات ومع ذلك لم يجرؤ أحد على هتك أسرار الجيش الذي كان يعمل سراً لامتلاك السلاح النووي.. لم يتجرأ فرد واحد المطالبة بنبش أسرار دولته.
المشكلة دائماً ليس في استغلال السلطات بل في أن لا يكون هناك سلطة أخرى للمراجعة والمحاسبة.. من حق جهاز الأمن أن يعتقل لكن تحت رقابة النيابة العامة.. بالقانون يمنح الجهاز فرصة محدودة للتحري فلنقل ثلاثة أيام فقط وبعدها ينقل المتهم إلى النيابة.. وحتى خلال الثلاثة أيام يظل المعتقل تحت إشراف النيابة تراجع المعتقلات وتقابل المعتقلين لتضمن توفر العدالة وحقوق الإنسان وعدم التعرض للتعذيب أو الإهانة أو أية مخالفات أخرى.
المطلوب تطوير هذه المؤسسات لا تحطيمها.. خاصة في الفترة الانتقالية التي تضعف فيها مناعة البلاد وتصبح معرضة للمخاطر من كل صوب..