في عهد الرئيس الأسبق جعفر محمد نميري كَثُرَ انقطاع الكهرباء ومعها ينقطع الماء، فألّف الشعب السوداني أغنية خفيفة الظل على إيقاع واحدٍ من الأناشيد الثورية التي كان يكثر تردادها في إذاعة أمدرمان.. يقول مطلع الأغنية:
)الكهرباء جات.. أملُوا الباغات.. قُبّال تقطع.. هسي بتقطع(..
أمس؛ أوفى رئيس الوزراء السيد مُعتز مُوسى بوعده، ويبدو أنّ حاملي بطاقات الصرّافات وجدوا ما يكفيهم من نقودٍ فيها.. وربما شَعر كَثيرون براحةٍ نفسيةٍ أنّ أموالهم باتت على بُعد لمسة زر الصرّاف الآلي.. ولكن!!
الإحساس بالحرمان وحالة الجفاف الذي استمر عدّة أشهر يُولد قُوة )شَراهة( تدفع الجميع للتّصرُّف بمنطق )أملُوا الباغات.. قُبّال تقطع.. هسي بتقطع(.. ولأنّ السقف المَسموح به للسحب من الصرّافات محدود، فأتوقّع استمرار السحب بصُورةٍ يَوميةٍ لحاملي البطاقات حتى ولو لم تكن لهم حاجة للعُملة النقدية.. لكنه الإحساس بـ)أملُوا الباغات.. قُبّال تقطع(!
فيكون الاختبار الحقيقي لتوفُّر السُّيولة هو تجاوز مسافة زمنية مَعقولة تَسمح بزوال إحساس )أملُوا الباغات(.. وعودة المُواطن للوضع الطبيعي، أن يَحصل على قَدر حاجته من العُملة النقدية لا على قدر مَخافته من انعدامها.. ولا أتوقّع أن يكون ذلك أقل من شهرٍ كاملٍ.. تعمل فيها الصرّافات بانتظامٍ، خَاصّةً عند صرف المرتبات في أول الشهر.
ولكن فلنفترض أنّ حكومة مُعتز تجاوزت رَهَاب السُّيولة، وسرت المياه في مجاريها المصرفية، واطمأن المُواطن أنّه ليس في حاجة لـ)أملُوا الباغات(.. فيصبح السُّؤال وهل تكفي مَوارد المُواطن لمُواكبة الارتفاع المُتواتر في الأسعار.. كيف يتعايش مع ارتفاع الأسعار خَاصّةً السلع والمُتطلبات الحتمية؟ هنا ينهض سُؤالٌ كَبيرٌ، ما هي الخُطة للتعامل مع الأزمة الاقتصادية بصُورةٍ شَاملةٍ، وليس في حُدُود مُشكلة السُّيولة؟!
أمس قرأت تصريحات للسيد أسامة داؤود رئيس “مجموعة دال” المعروفة قال: )أسباب ضياع فُرص التمويل الدولي هو وجود السودان في قائمة الإرهاب..( وربط التعافي من الأزمة الاقتصادية بتعافي العلاقة مع المُجتمع الدولي.. وهذا يعني بالضرورة أنّ المُشكلة في السُّودان سياسية ولكن أعراضها اقتصاديّة، وما لم تُحل المعضلة السِّياسيَّة فلا أمل في الخُرُوج من نفق الأزمة الاقتصادية.. فيصبح السُّؤال للسّيّد رئيس الوزراء.. ماذا أنت فاعلٌ في الأزمة السِّياسيَّة؟
ومن السِّياق العام يبدو السيد مُعتز غير مشغولٍ بالملفات السِّياسيَّة، إمّا لأنّه غير مُقتنعٍ بأولويتها وعلاقتها بالاقتصاد، أو لأنّها )ضَغط عَالٍ( تصعق من يقترب منها.. وبذلك يَصبح توفُّر السُّيولة مُجرّد )محطة( لأزمة مُزمنة ليس للخُرُوج منها خارطة طريق، بل ولا حتى إرادة سياسيّة حقيقيّة.
من الحكمة أن يدرك رئيس الوزراء مُعتز مُوسى أنّ كُل ساعة تَمر من عُمر حكومته تَستنزف شهراً من عُمر السُّودان، فليست المُصيبة في الأزمات وحدها، بل وفي الفُرص الضائعة – كما قال أسامة – التي تَمر تَحت أقدام السُّودان إلى خَارج المَلعب..