صحيفة كورة سودانية الإلكترونية

الديمقراطية الاشتراكية والنقد (الكلامي) للرأسمالية

34

 

 

 

صار شائعا في السنوات الأخيرة، وتحديدا بعد الازمة المالية العالمية، ملاحظة تهجمات كلامية مباشرة على اشكال معينة من الرأسمالية (أو الرأسماليين). ففي الخطاب الذي ألقاه قائد الحزب العمالي البريطاني إدّ ميليباند (Ed Miliband) أمام مؤتمر حزب العمال عام 2011، أشار فيه إلى: “المفترسات…تهتم فقط بالربح السريع”[1]، كما هاجم “ثقافة المدى القصير”[2](short-termist culture) (Miliband, 2011)، أما الرئيس باراك أوباما، فقد هاجم، في خطاب مركزي في اوساواتومي (Osawatomie) في كانزاس، بما وصفه: “الجشع القاتل الذي يمارسه البعض”، واصفا فلسفة الجمهوريين الاقتصادية بفلسفة “دبر نفسك بنفسك”[3] (You’re on your own ‘economics’) (Obama,2011).

   وبعيدا عن الارتياح التام الذي عبر عنه بيتر ماندلسون (Peter Mandelson) حول أولئك [الرياديين] الباحثين عن الثراء الفاحش[4]. في الواقع، فإن الأزمة المالية لم تعمل فقط على تغيير اللغة الخطابية لأحزاب يسار الوسط، ولكن لغة أحزاب يمين الوسط تغيرت أيضا، وتحديدا في نقدهم لتجاوزات القطاع الخاص، بطريقة لم يكن واردا التفكير فيها قبل خمس سنوات.

   من المساهمات المبكرة حول هذا الموضوع ما ورد على لسان فرانتس مونتيفيرنج (Franz Müntefering) في عامي 2004 و 2005، والذي أصبح لاحقا رئيسا للحزب الديمقراطي الاشتراكي الألماني (SPD)، حينما شبه بعض الشركات بـــ”الجراد” راسما صورة استفزازية للوجه غير المقبول للرأسمالية. سنسترجع  بشكل موجز إدعاءات مونتيفيرنغ هذه ونضعها في سياقها، ومن ثم نلقي نظرة على ردة الفعل عليها في المانيا.  وسنحاول أن نبين  بأنه، وبالرغم من التغير الحاسم في اللغة الخطابية للديمقراطيين الاشتراكيين، إلا أن الديمقراطيين الاشتراكيين في الماني، كما في أي مكان آخر، بعيدون جدا عن ردم الفجوة الكبيرة بين لغتهم الخطابية والسياسات العملية التي إتخذوها للرد على الوجه غير المقبول للرأسمالية. وفي الواقع، فإن هذه اللغة الخطابية قد تكون علامة من علامات الإحباط والعجز عن الفعل، أكثر منها رغبة حقيقية للقيام بأفعال.

 

فرانتس مونتيفيرنج والجراد

   عندما إستلم مونتيفيرنج  قيادة الحزب الديمقراطي الاشتراكي الألماني في كانون أول عام 2004،  خلفا لغيرهارد شرودر (Gerhard Schröder) (مع أن شرودر بقي مستشارا)، ألقى كلمة في مؤسسة فريدرش إيبرت (Friedrich Ebert Foundation)، وهي مؤسسة دراسات الحزب الديمقراطي الاشتراكي، حول موضوع “الحرية والمسئولية”، بخصوص تطوير برنامج حزبي جديد (وثيقة المبادئ الأساسية للحزب) (Müntefering، 2004؛ الاقتباسات التالية هي من خطابه). بدأ الخطاب ببعض التصريحات التي تعكس شخصيته، فهو سياسي جاف جدا، لا يزخرف الكلام، قائلا: “البرنامج الحزبي القصير أفضل من البرنامج الحزبي الطويل. وبالتأكيد ليس الطويل جدا، الحقيقة بسيطة”. تبع ذلك نقاش الزامي عن الحاجة لإعادة التفكير في الديمقراطية الاشتراكية في عصر العولمة، والأوربة، والفردانية والتكنولوجيا الجديدة. ومرة ثانية، فإن المعجبين بأسلوب مونتيفيرنج الصارم، قد ثمنوا رغبته في “إعادة موضعة قيمة الحرية من زيف مجتمع اللهو وإرجاعها إلى مكانها الذي تنتمي إليه قبل كل شيء وهو قيمنا نحن”.

   أما المقطع الأكثر لفتا للإنتباه في الخطاب (بالرغم أنه، في ذلك الوقت، لم يثر ردود فعل كثيرة في الإعلام) جاء في النهاية عندما قال مونتيفيرنج:

يجب علينا مساعدة تلك المؤسسات ذات الرؤية المستقبلية والتي تعمل من أجل مصالح العاملين فيها، في مواجهة وباء الجراد اللامسئول، تلك الشركات التي تقيس النجاح كل ربع سنة، بحيث تمتص الأصول المالية، وتترك الشركات تصطدم بالحائط بعد أن جردتها أصولها. الرأسمالية ليست شيئا خارج من المتحف-إنها موضوع مثير.

وقد أعاد مونتيفيرنج إستعارته هذه عام 2005، في مقابلة مع صحيفة بلد آم زونتاج (Bild am Sonntag):

 

بعض المستثمرين الماليين لا يفكرون مطلقا في أولئك الناس الذين دمروا وظائفهم. إنهم يبقوا مجهولين، بلا وجه، يأتون ويحطون على الشركات كأسراب الجراد تأكلها أكلا ومن ثم تتابع مسيرها. فنحن نقاتل ضد هذا الشكل من الرأسمالية (Müntefering, 2005).

 

هذه المرة، وإن كانت متوقعة،  كان هناك ردة فعل فورية وقوية في الرأي العام، والصحافة، والحزب.

   أما نائب رئيس الكتلة البرلمانية للحزب الديمقراطي الاشتراكي، الميال إلى اليسار، ميشيل موللر(Michael Müller )، فصرح بأنه “مسرور” لردة فعل الرأي العام حول كلام مونتيفيرنج، حيث أدعى أن تسعة من عشرة يوافقون عليه، أما زميله لودفيش شتيغلر (Ludwig Stiegle) أعلن: “إن الناس يلاحظون بأننا غير مصابين بعدوى طريقة تفكير السوق الراديكالية”. أما نائب رئيس حزب اليسار، هايدماري فيشتزورك-زويل (Heidemarie Wieczorek-Zeul,)، فقد هنأ مونتيفيرنج بأنه وجد “النغمة السليمة” (Spiegel, 2005a). وفي غضون ذلك، قال أوسكار لافونتين (Oskar Lafontaine)، قائد الحزب الديمقراطي الاشتراكي السابق، والذي ذهب بعد أشهر قليلة لتأسيس “حزب اليسار”، بأن هناك جراد آخر يسمى “جيرهارد” [شرودر]، و”فرانتس” [مونتيفيرنج]، مضيفا أن “الأفعال أهم من الأقوال”.(Spiegel,2005b).. أما رئيس إتحاد أرباب العمل، ديته هونت (Dieter Hundt)، فقال بأن هذا الكلام يشعره برغبة في التقيؤ. مضيفا أن هذا كلام “غير وطني” لأنه يثبط الاستثمار في ألمانيا. أما كبير برلمانيي حزب الإتحاد الديمقراطي المسيحي رونالد بوفالا (Ronald Pofalla)، فسمى مونتيفيرنج ب”إشتراكي بدائي”، أما زعيمة الحزب الديمقراطي المسيحي آنجيلا ميركل (Angela Merkel) إتهمت الحزب الديمقراطي الإشتراكي الألماني بأنه “مليء بالتناقضات”.(FAZ, 2005c).

   وبعض الإنتقادات ذهبت أبعد من ذلك: فقد رأى المؤرخ ميخائيل فولفسون (Michael Wolffsohn) بأن مقارنة مونتيفيرنج تشبه معادلة الإنسان بالحيوان عند النازيين-وهو إتهام أثار رد فعل حانق من قبل الديمقراطيين الإشتراكيين. (Spiegel, 2005c).

   وبعد أسابيع قليلة، كتبت كتلة الحزب الديمقراطي الإشتراكي البرلمانية ورقة موجزة عن خلفية وجهة نظر الحزب (لم تنشر هذه الورقة ولكن إطلعت عليها الصحافة) سعت إلى توضيح بعض النقاط في تصريحات مونتيفيرنج، بل هي تحديدا حدّت من مدى تلك التصريحات (FAZ, 2005b).  فجاء التوضيح بأن هجوم مونتيفيرنج كان موجها بشكل خاص إلى صناديق التحوط والشركات الاستثمارية الأخرى مثل: كاي كاي آر (KKR)، و أباكس (Apax)،  ,و كارلايل (Carlyle)، وبي سي بارتنرز (BC Partners)، وآدفنت (Advent)، و سي في سي (CVC)، وبيرميرا (Permira)، و سابان كابيتال آند بلاك ستون (Saban Capital and Blackstone). فهذه الشركات هي التي اشترت بعض الشركات الألمانية مثل سيمينز-نكسدورف (Siemens-Nixdorf ) في عام 1999؛ حيث تم شراؤها من قبل شركة KKR، وشركة جولدمان ساكس (Goldman Sachs)، حيث تم سحب 160 مليون يورو خارج الشركة، ثم تم طرحها في سوق الأسهم، ومن الـ350 مليون يورو التي حصلت عليها بسبب التعويم تم سحب 225 مليون يورو خارجها من قبل شركتي KKR  و جولد مان ساكس، تاركة 125 مليون يورو فقط مع الشركة (Spiegel, 2005d). وبالنسبة لمنتيفيرنج فهذا يمثل سرقة يقوم بها أصحاب السياسات قصيرة المدى للشركات الألمانية الراسخة (وخصوصا إسم شركة سيمينز الذي يرمز إلى الصلابة الالمانية) من قبل انتهازية المستثمرين الاجانب.

 

منتقدو الجراد في الحملة الانتخابية: إنتخابات عام 2005

   لماذا إذن أطلق مونتيفيرنج هذا الهجوم شديد اللهجة على الوجه غير المقبول للرأسمالية في هذا الوقت تحديدا؟ يمكن الكشف عن العديد من الأسباب الإنتهازية: ففي نيسان عام 2005، واجه الحزب الديمقراطي الإشتراكي انتخابات حرجة في أكبر ولايات المانيا وهي نورث راين وست فاليا (North Rhine Westphalia)، حيث كان الحزب يرأس الحكومة منذ سنة 1966 (غير مفاجئ وخصوصا في منطقة تحتوي على وادي الرور (Ruhr valley) ومراكز صناعية رئيسية أخرى).

   لقد تراجعت شعبية الحكومة-الخضراء للحزب الديمقراطي الإشتراكي الألماني في إستطلاعات الرأي؛ فلقد نفذت العديد من توصيات لجنة هارتز (Hartz Commission) الخاصة بإصلاحات سوق العمل وسياسات الرفاه، والقضية الأكثر إثارة للجدل كانت التقليص الهائل لإعانات البطالة للعاطلين عن العمل لفترات طويلة. بينما قبل تلك الإصلاحات كان العاطلون عن العمل، من الذين لهم تاريخ كبير من المساهمات،  يتقاضون حتى 60% من صافي قيمة دخلهم السابق (67% لمن يعيلون أطفال) لأول 32 شهر من فترة البطالة، بينما تقلصت إلى 53% (57% لمن يعيلون اطفال)، وبعد ذلك، قلصت إصلاحات هارتز المستحقات إلى الحد الأدنى، ومستويات الإعاشة بعد 12 شهر، (18 شهر لمن تزيد أعمارهم عن 55)(Kemmerling and Bruttel, 2006)، ولأسباب واضحة، فقد عرّض هذا قسم كبير من قوى العمل الألمانية لانعدام هائل في الأمان المعيشي، وبجرة قلم تم تقليص معاشات كثير من العاطلين عن العمل لفترات طويلة إلى النصف.

   وفي نفس الوقت، عندما كان الحزب الديمقراطي الإشتراكي الألماني في الحكومة كان  سخيا مع المستثمرين الأجانب، حيث كان من الصعب إنتقاد  سيطرة المستثمرين الأجانب على الشركات الألمانية بأي مصداقية؛ وليس فقط أنه شرعن السماح لعمل صناديق التحوط في ألمانيا من 2003 وما بعدها، ولكنه أيضا قلص الضرائب على الشركات، وخفض الإلتزام الضريبي للمستثمرين المستفيدين من بيع أسهم الشركات. (Spiegel, 2005a).

   وإذا كان هدف مونتيفيرنج هو تقوية الحملة الانتخابية للحزب الديمقراطي الإشتراكي في ولاية نورث رآين وستفاليا(North Rhine Westphalia)، فقد فشل فشلا ذريعا. وبالرغم من أن نسبة كبيرة من الشعب الألماني أعربوا عن موافقتهم على آرائه في استطلاعات الرأي (78% موافقون، على سبيل المثال، بأنه بالنسبة لبعض الشركات، فإن العمال عبارة عن جزء من “تكاليف الإنتاج” مثلهم مثل الآلات- Spiegel 2005e). مع أنه كان هناك تشكك أيضا حول دوافعه: 57% شعروا بأن اقواله لم تكن أكثر من دعاية إنتخابية، بينما توقع 30% أن يكون هناك تبعات  فعلية. أما نتائج الانتخابات التالية في نورث رآين وسستفاليا فكانت كارثية: 37.1% للحزب الديمقراطي الإشتراكي، وهي النتائج الأسوأ للحزب منذ سنة 1954، بينما حصل حزب الإتحاد الديمقراطي المسيحي على 44.1% مما أهّله لاستلام الحكومة. وفي نفس الليلة، أعلن المستشار شرودر رغبته في حل البرلمان الفدرالي وإجراء انتخابات مبكرة، مما يعني انه لم يعد لديه تفويض قوي ليحكم. (Pulzer, 2006)..

   وفي الوقت ذاته، فإن هجوم مونتيفيرينج على الجراد أضاف بعض النكهة على الحملة الانتخابية التالية؛ فشرودر، وهو مرشح بارع، ركز هجومه على نيوليبرالية الحزب الديمقراطي المسيحي، وتحديدا على تعيين أنجيلا ميركل للبروفيسور بول كيرشوف (Paul Kirchhof) وزيرا للمالية في حكومة الظل، ، والذي كان فيما مضى قد أعرب عن دعمه لمبدأ الضريبة الثابتة. حيث يطلق عليه شرودر إستخفافا “البروفيسور من هايدلبيرغ” (‘The Professor from Heidelberg’) مؤكدا بعده عن مشاغل المواطنين العاديين.

   ففي بداية الحملة الإنتخابية، تفوق شرودر بــــــ 17% على ميركل تحت شعار”العدالة الإجتماعية”، و في النهاية كانت النتيجة 48% (Pulzer, 2006, 567). ولم يحقق النصر للديمقراطيين الإشتراكيين، فحصلوا على 34.2%، وتفوق الديمقراطيين المسيحيون عليهم  بــ1%، ولكنها أربحتهم موقعا كشريك صغير في حكومة “الإئتلاف العريض” مع الديمقراطيين المسيحيين. حيث تولى مونتيفيرنج منصب نائب المستشار ميركل ووزير فدرالي للعمل والشؤون الاجتماعية (بالرغم من أنه تنحى عن رئاسة الحزب الديمقراطي الإشتراكي). أما حزب اليسار المُؤسَس حديثا ( وهو يضم شيوعيون سابقون أغلبهم من شرقي المانيا من حزب الاتحاد الديمقراطي الاشتراكي، ومن الحزب المشكل في أغلبه من غربي ألمانيا، حزب القائمة الانتخابية البديلة للعمل والعدالة الاجتماعية (WASG) ) بحملة انتخابية بقيادة أوسكار لافونتين حصل على 8.7% من الأصوات حاصدا هذا النجاح بسبب معارضته لإصلاحات هيرتز. أما الانعطافة اليسارية للحزب الديمقراطي الإشتراكي، متمثلة بالهجمات على الجراد، حدّت ولكنها لم تتغلب على هجمات اليمين ولا اليسار.

 

إجماع على نقد الرأسمالية؟ ألمانيا منذ العام 2005

   بعد توليه لمنصب نائب المستشار في  حكومة الإئتلاف العريض تحت رئاسة مستشار من الحزب الديمقراطي المسيحي، أصبح نقد فرانتس مونتيفيرنج للرأسمالية اكثر هدوءا[5]، فلقد ترك الحكومة في عام 2007 ليرعى زوجته التي كانت في حالة صحية حرجة.

   ومع ذلك، فرسالته عن خطورة السياسات قصيرة المدى على الاقتصاد، والحاجة إلى كبحها، كانت متبصرة، بعد الإنهيار المتلاحق لسوق الرهن العقاري وعدواها التي إنتشرت في أنحاء أوروبا. وهذا بالطبع شمل، بطريقة دراماتيكية، قطاع المصارف الألماني-والذي لم يذكره مونتيفيرنج-حيث كان في بادئ الأمر يعتقده قطاعا آمنا. ولأن هذه الانتقادات قيلت قبل الأزمة المالية العالمية، فإن اللغة التي إستخدما مونتيفيرنج لم يكن وارد التفكير فيها في المملكة المتحدة في حينه، حيث القطاع المصرفي القوي (والذي كان يتمتع بنفوذ سياسي ضخم). يمكن القول، أن كلماته لاقت آذانا صاغية، فعلى سبيل المثال، لو كان هناك تنظيم أقوى للمضاربين وصناديق التحوط، ربما لأمكن تخفيف وطأة الازمة المالية، اذا لم نقل تفاديها. ولو أن ألمانيا أعتبِرت “متقاعسة” في عام 2005 بسبب عدم فتح الأوراق المالية أمام إستحواذ الشركات[6] (Market corporate control)، لكانت النقطة الأساسية في رسالته (إذا لم نقل إختياره للعبارات) بعد الأزمة المالية قد لاقت إنتشارا أوسع بكثير.

   وبعد أن غادر مونتيفيرنج الحكومة، إتخذت بعض التدابير لمكافحة الجانب المظلم للرأسمالية. ففي إجتماع قمة الثمانية (G8) لعام 2007، حاول  وزير المالية الألماني بير شتاينبروك (Peer Steinbrück )، وهو ديمقراطي إشتراكي وسطي، ولكن دون جدوى في طرح “مدونة سلوك” لصناديق التحوط، وسقط المقترح بعد معارضة كل من الملكة المتحدة والولايات المتحدة. (Economist, 2007)

   وفي وقت لاحق، قدمت حكومة الإئتلاف العريض، تحت رئاسة شتاينبروك، قانون الحد من المخاطر لعام 2008، والذي فرض إلتزامات جديدة على المستثمرين في الشركات الألمانية: حيث الزمت مشتري السندات المالية لأكثر من 10 بالمئة من أسهم الشركة أن يكشفوا عن هويتهم وعن مصدر التمويل، حيث كان ينوي بشكل صريح إلى “تلقين الجراد درسا عصيبا” كما كتبت صحيفة سود دويتشه (Süddeutsche (SZ, 2008) ، معطية الشركات فرصة أكبر لمقاومة الإستيلاء العدائي للمستثمرين الأجانب. بالإضافة إلى ذلك، صار هناك قيود جديدة على البنوك في بيع ديون الرهن العقاري.

   في عام 2008، كشف شتاينبروك النقاب عن خطة من 14 نقطة تهدف إلى “شفافية وإستقرار أكثر في الأسواق المالية”، بما فيها مقترح لزيادة المسؤولية الشخصية على الجهات المالية الفاعلة، فارضة عقوبات أكثر صرامة على المستثمرين الذين لا يزودون معلومات لمجالس العمل (بما يشمل ممثليات الموظفين)، وتقوية الاجراءات المالية على المستوى الأوروبي وتقديم تنظيم أكبر على صناديق التحوط وصناديق الملكية الخاصة (SPD, 200)؛ وبعض هذه المقترحات عرضت على إجتماع قمة العشرين (G20) في بتسبيرغ في 2009، بالرغم من أن معظمها لم يتم الأخذ به.

   وفي نفس الوقت، فإن الفترة منذ عام 2005 قد شهدت تحولا عن الليبرالية الاقتصادية من قبل حزب الإتحاد الديمقراطي المسيحي (والتي إستمرت خلال تحالفهم مع الحزب الديمقراطي الحر الليبرالي منذ عام 2009)، بينما أجبر فريدريش ميرتز (Friedrich Merz)، وهو أقوى مناصر لليبرالية السوق في حزب الإتحاد الديمقراطي المسيحي، على ترك دوره كقائد لكتلة الحزب البرلمانية في 2002، وتدريجيا ترك الحلبة السياسية. وبشكل متزايد، أخذ نبلاء حزب الإتحاد الديمقراطي المسيحي بالتذمر من تحويل حزبهم إلى شبيه بالحزب الديمقراطي الإشتراكي: غير راضين، على سبيل المثال، عن اقتراحات آنجيلا ميركل بخصوص الحد الأدنى للأجور، بالإضافة إلى التخلي عن نظرتهم السابقة حول بعض البصمات التي صنعتها الديمقراطية المسيحية لحقبة ما بعد الحرب، كالطاقة النووية، والتجنيد الإلزامي، ودعم القيم العائلية التقليدية (for example, Teufel, 2011).

   وهذا بدوره ضاعف الضغوظ على الحزب الديمقراطي الإشتراكي ليحافظ على نغمته الحادة. وقد نادى سيغمار غابرييل (Sigmar Gabriel)، وهو قائد الحزب منذ سنة 2009، وفي خطابه الناري في مؤتمر الحزب سنة 2011، إلى تنظيم أكثر للأسواق المالية، وصرح بأن الضرائب على البنوك والمضاربين، والتي تطلبت عمليات إنقاذ، هي مسألة أخلاقية وسياسية. (Gabriel, 2011)

 

الخلاصة

   من غير شك يمكن إيجاد أمثلة أخرى، إلا أن تهجم مونتيفيرنج على “الجراد” قد سجل نقطة تحول مهمة في اللغة التي يستخدمها يسار الوسط الأوروبي، ومن ثم على نطاق أوسع بين السياسيين، لشجب الوجه غير المسئول للرأسمالية.

ولكن كان هناك شيء يخص ألمانيا تحديدا في إستهداف مونتيفيرنج: التركيز على الشركات الألمانية التي تتعرض لهجوم (عدائي، أجنبي)، وتحديدا في القطاع الصناعي. حيث كان هذا القطاع فيما مضى مرتبطا بسياسات الإستثمار طويلة المدى فيما يتعلق بالتكنولوجيا والقوى العاملة، مع إستقرار أكثر للموظفين، ودور ذو معنى لاتحادات التجارة ولممثليات العمال في تأثيرها على مجالس عمل الشركات، حيث كانت ترتكز على رأس المال “الصّبور”، الذي كان غالبا يزوده هاوس بانك (Hausbank)، حيث كانت للشركات علاقة طويلة الأمد معه.

   في الحقيقة، وبالرغم من أن هذا ما زال جزءا في غاية الأهمية بالنسبة للاقتصاد الالماني (وهو أحد الأسباب التي تمنح الديمقراطيين الإشتراكيين دائرة إنتخابية مهمة، كما يزود مناصري إقتصاد السوق الإشتراكي بمسوغات وجودهم) إلا أنه قطاع يسير بإنحدار. بالرغم من أنه كان هناك ما يقارب 40 مليون ألماني في سوق العمل في آذار 2005 (مقارنة مع 5.2 مليون عاطل عن العمل)، كان فقط 26 مليون منهم يتقاضون تأمينات إجتماعية-وهو مقياس جيد للعاملين بدوام كامل بأجور معقولة، أما البقية فهم خليط من ذوي الأجور المنخفضة، والعاملين لفترات قصيرة على برامج خلق فرص العمل، ومقاييس مشابهة (Federal Labour Agency, 2011). أما حصة سوق العمل والأجور على المستوى القطاعي فقد إنخفضت من 69% في غربي ألماني في 1996، و 56% في شرقي ألمانيا إلى 59% و 42% على التوالي في 2005. (IAB,2007, 48)

لو أن هدف مونتيفيرنج كان حماية شروط العمل والأمان الوظيفي للعاملين، لكان هذا بالنسبة إلى الكثيرين بمثابة إغلاق باب الإسطبل بعد هروب الحصان. بالطبع سيكون هناك إستمرار للحس الاقتصادي وميزات سياسية في الحفاظ على الإسطبل المتبقي، وهم أرباب العمل المستقطبون للعمالة عالية المهارة.

   هناك ثلاث نقاط ختامية أساسية: الأولى أن الأزمة المالية لسنة 2007-8 وتبعاتها المستمرة، حدثت على مرأى حكومات يسار الوسط في العديد من الدول (لا سيما في المملكة المتحدة، وإسبانيا، واليونان). وكنتيجة، فإن أحزاب يسار الوسط هذه، وأيضا الحزب الديمقراطي الاشتراكي الألماني والديمقراطيين في الولايات المتحدة (فهم مدينون بسبب فترات حكمهم السابقة)، كان من الصعب عليهم أن يتجنبوا الاتهامات التي يتحملوا بعض اللوم عليها بسبب قلة تنظيم أسواق المال التي سمحت بحدوث الازمة. في الواقع، وفي حالة الحزب الديمقراطي الاشتراكي الألماني، فقد أتهموا بأنهم غيّروا القانون بطريقة سهلت على المستثمرين الأجانب الإستيلاء على الشركات الألمانية. لذلك فإن يسار الوسط يواجه تحديا كبيرا في تأسيس المصداقية الضرورية ليعطي نقدا مقنعا للأشكال غير المقبولة من الرأسمالية وكبح جماح الجراد.  وربما، وفي ظروف معينة، فقد يعطي هذا فرصا أكثر لأحزاب اليسار الراديكالي، وهناك أيضا إحتمالية بدرجة أكبر للامتناع عن التصويت لجميع الأحزاب، أو كما يقال “اللعنة على الجميع”[7](plague on all your houses).

   ثانيا، لقد صار هناك نوع من التقارب في لغة صانعي السياسات، في يسار الوسط واليسار الراديكالي على حد سواء، فتوصيف فرانتس مونتيفيرنج للإستثمار الأجنبي ب” الجراد” أو نقد إدّ ميليباند ل”الحيوانات المفترسة” تبدو الآن مألوفة أكثر مما هي ملفتة للنظر. على أي حال، فهذا لا يعكس بالضرورة أن هناك إتفاق جوهري على السياسات المالية والاقتصادية. فما زال هناك إختلافات جوهرية في وجهات النظر بين أحزاب يسار الوسط في بلدان مختلفة: فمعارضة العمّاليون لفرض ضرائب على المعاملات المالية في الإتحاد الأوروبي، ومعارضة البريطانيون لمقترح شتاينبروك بخصوص مدونة سلوك لصناديق التحوط، أو الرؤية الألمانية الخاصة لدور البنك المركزي اأاوروبي (بمشاركة الحزب الديمقراطي الإشتراكي الألماني)، بالإضافة إلى العديد من الأمثلة الأخرى. وتبدو الآن إتفاقية 2009، بقيادة باراك أوباما وجوردون براون بخصوص حزمة عالمية من الحوافز، كلحظة تناغم مؤقتة. وكما أن السياسيين من يسار الوسط كانوا وما زالوا يحثّون بشدة، وبالرغم من أن يمين الوسط قد تبنى مواقف حادة ظاهريا لبعض تجاوزات الرأسمالية، إلا أنه عمليا، كانت سياسات معالجة الأزمة متقاربة مع سياسات الديمقراطيين الإشتراكيين.

   ثالثا، وكما جادل مؤخرا فولفغانج شتريك (Wolfgang Streeck) في مقالة رائعة، فإن الأزمة المالية، وبدلا من أن تؤدي إلى إعادة فرض أولوية السياسة على الاقتصاد، فيحتمل أن تأثيرها كان معاكسا، حيث أن الاسواق المالية العالمية صارت تملي على الدول القومية مقاييس ضيقة للطريقة التي يجب أن تعمل فيها السياسة. وهذا أول ما حدث في تلك الدول التي تجثم تحت وطأة الأزمة مثل اليونان، والآن في إيطاليا، ولكن أيضا في دول أكثر قوة بما فيها ألمانيا. وكما عبر عنه ستريك بيأس:

يبدو أن القوة الاقتصادية اليوم أصبحت قوة سياسية أكثر من أي وقت مضى،، بينما يبدو المواطنون مجردون بالكامل تقريبا من دفاعاتهم الديمقراطية وقدرتهم في التأثير على مصالح الاقتصاد السياسي ومطالبهم غير المتناسبة مع أصحاب رؤوس الأموال.(Streeck, 2011, 29)

   إذا كان ستريك محقا، فإن الخطاب الإنفعالي المتزايد ضد الوجه غير المقبول للرأسمالية قد يكون ردا منطقيا على التيار العام من السياسيين الذين يريدون منع “أعمال الشغب في الشوارع والتمرد الشعبي”، والتي يمكن أن تكون آخر نمط من أنماط التعبير السياسي لؤلئك المجردين من قوة السوق، مقدمين بديلا جديدا للتيار العام من السياسات الديمقراطية  (Streeck, 2011, 28). فحتى الآن، فإن هذه الأشكال من التعبير عن الغضب ما هي إلا تعبير عن العجز: فهذه الحرب الكلامية  لم تكن مقدمة لما سيأتي بعدها من ترويض الرأسمالية، ولكن عوضا عن ذلك صارت بديلا عن ترويضها.  وإذا كانت استراتيجية تكثيف اللغة الانتقادية هذه غير مترافقة مع تغيير كبير في السياسات، فإن الفشل في تلبية توقعات الرأي العام ستؤدي إلى كشف هذا الوهم بسبب إتساع الفجوة بين الكلام والأفعال، وخراب أكثر لمصداقية يسار الوسط (ناهيك عن مصداقية عملية الانتخابات الديمقراطية ذاتها). وعلى هذا النحو، يتعين على الديمقراطيين الإشتراكيين، في الواقع على جميع الديمقراطيين، عدم الاكتفاء فقط برثاء “الجراد” و “الحيوانات المفترسة”، أو على إختيار المصطلحات الازدرائية، وإنما مواصلة السعي العاجل لأدوات سياسية حقيقية للمواجهة والسيطرة عليها.

 

 

إد تيرنر / ترجمة: فؤاد ريان

 

قد يعجبك أيضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبولقراءة المزيد