)1(
رحم الله السيد عز الدين المكي مُحافظ مشروع الجزيرة في مطلع تسعينات القرن الماضي، فعندما قابلني لأوّل مرة، انتقد ما كُنّا نكتبه عن المشروع، فطلبت منه أن يدلني على خطأ ما كتبناه، فقال لي: )بس إنتو تشوفوا الشيء السلبي وما قاعدين تنظروا للأشياء الإيجابية البنعمل فيها, طبعاً لازم تكون في أخطاء لكن التركيز عليها وحدها بيعمل لينا إحباط(.. فقلت له: نحن هدفنا التّقويم، ثم ثانياً أنا من الجزيرة، فجريان الماء في القنوات شيءٌ طبيعيٌّ، ولكن عندما تجف القناة أو تتكسّر المياه منها، فهذا هو الشيء غير الطبيعي الذي يَصبح حديث الناس والمُجتمع.. ومع ذلك في كلام السيد عز الدين شَيءٌ من الوجاهة، فالمُوظّف العام عندما يَبدع يَستحق الثناء العلني، ولكن عندما يسير الأعمال الروتينية فهذا واجبه الذي لا يُشكر عليه، ولكن على العُمُوم الكتابة الصحفية جبلت على رؤية الجُزء الفارغ من الكوب شريطة أن يكون الهدف هو ملء هذا الجُزء.
)2(
في السنوات الأخيرة، اتّسمت الكتابة الصحفيّة في السُّودان بالنقد الحَاد ولعلّ هذا هو الشيء الطبيعي، لأنّ الأمور ظلّت في حالة تردٍ مُستمر بدليل الأزمة الاقتصادية الخانقة التي نعيشها الآن، وبدليل ردة الفعل المُتمثلة في الثورة الشبابية الديسمبرية التي دخلت شهرها الرابع، وعَلى حَسب الأطباء فإنّ الجَنين في بطن أمه عِندما يَتَجاوز الشّهر الرابع يَصبح لا خَوْف عليه، ولكن مع ذلك ظللنا نحن الذين نسوّد صفحات الصحف نبحث بحثاً عن الأشياء الجميلة لكي نكتب عنها ونبشِّر الناس بدلاً من زيادة الغم عليها ليس هذا فحسب، بل أصبحنا نخاف من قول الشاعر )والذي نفسه بغير جمالٍ لا يَرَى في الوجود شيئاً جميلاً(، فمن شِدّة عدم رؤيتنا للشيء الجميل، خفنا أن يكون العيب فينا وأنّ أنفسنا هي التي بغير جمالٍ.!
)3(
لكن قُل لي يا صاح، ماذا نفعل مع الذين يشنون الحرب اليومية على الجمال؟! فما أن يروا شيئاً جميلاً إلا وهجموا عليه وأحالوه إلى فشلٍ ذريعٍ، مثال لذلك أشدنا بالبنك الزراعي والدور الذي يقوم به في دعم الزراعة رغم أنّه بنك حكومي وهذه هي وظيفته، ولكن ها هو البنك الزراعي يتحوّل إلى تاجرٍ ويُموّل بأرباح عالية جداً تصل إلى 18%، بينما في الدول الأخرى يتم دعم الزراعة، وإذا أنشئت بُنوك مثل بنك الائتمان المصري تكون الأرباح “واحد في المائة” بعد فترة سماحٍ طويلة، وعندما يدخل البنك الزراعي في استيراد الآليات الزِّراعية تكون أرباحه فظيعة، وعندما يدخل في شَرَاكَةٍ مع المُزارع تكون مُرابحة ومع ذلك نحن ضد الهَجمة عليه ونُطالب بتطويره وتَغيير قَانونه.. فالعاملون فيه مكان تقديرنا, أشدنا بسعر التركيز الذي أعلنته الحكومة للقمح فَنَجَح مُوسمه، ولكن ها هي الحكومة ساعة الحصاد )تورِّي المُزارع نُجُوم النّهار(، أشدنا بفكرة الزِّراعة التّعاقديّة، ولكن الشّركَات في هذا المُوسم)رَقَدَت بالوَرق( فأصبح مُوسم القُطن لهذا العام )زَي الزِّفت( وهكذا كما قال المُتنبي )كُلّما أنبت الزمان قناة ركب المرء في ذاك القناة سنانا( أي تتحوّل إلى )خازوق(.!
)4(
أشهد الله إنّني عندما أقبلت على هذا الموضوع، كُنت أود الكتابة مُشيداً بهيئة الأرصاد الجوي وتَنبؤاتها المُمتازة، دَاعياً للاهتمام بها وتطويرها للاعتماد عليها، بيد أنّ المُقدِّمة استغرقت المساحة.. فهاردلك يا ناس الفاصل المداري والأتربة العالقة.!