ظلت الإدارة الأهلية في السودان منذ الاستعمار محل احترام وتقدير لجميع المكونات، وكانت تُمثل الركيزة أساسية للنظام الاجتماعي الذي يقوم على أعراف وتقاليد راسخة وقيم ومبادئ شكلت أرضية صُلبة قامت عليها الإدارة الأهلية في السودان، وبهذا اكتسبت مكانة اجتماعية عالية، وهيبة أشبه بهيبة الملوك والسلاطين، فبات يلجأ إليها الحُكام والولاة لحل المشاكل الاجتماعية والقبلية التي تستعصي على الحل بما لها من مكانة كبيرة في نفوس الناس، وما لها من عزة نفس وإباء وكرامة …
لكن للأسف كل شيء قد تبدل الآن، فبعض رجالات الإدارة الأهلية أصبحوا هم أنفسهم جزءاً من المشكلات والخصومات، وبهذا تضعضع دورهم في إصلاح ذات البين، فأثقل الولاء السياسي للمؤتمر الوطني كاهلهم وأفقدهم الحكمة والرشد المعهودين، ففي الثلاثين سنة الماضية انضم كثير من رجالات الإدارة الأهلية إلى حزب المؤتمر الوطني وأصبحوا جزءاً من نظام الإنقاذ الفاسد، يتحملون أخطاءه وممارساته مثلهم مثل أي شخص منتم للنظام المخلوع، وليس هذا وحسب، بل تخلوا عن دورهم التأريخي فأصبحوا يتطلعون إلى الحكم والسياسة والمناصب، فأنشأوا حزباً لذلك، وبذلك أراهم قد أطلقوا رصاصة الرحمة على الإدارة الأهلية في السودان.
عندما جاءت ثورة الشباب تداعت الوفود المؤيدة للثورة إلى ميدان الاعتصام ورأينا رجالات الأحزاب ونساءها، ورجالات الطرق الصوفية، والخلاوي، وعلماء الدين مثل محمد هاشم الحكيم الذي (كان صابيها وواقف قنا مع الشباب) ولم نر لافتات لرجال الإدارة الأهلية ربما لإحساسهم بأنهم كانوا جزءاً من النظام المخلوع فاختفوا مع إخوانهم في الحزب.
وما أن انفضّ الاعتصام ومات شباب السودان الغض الذي ضحى بالروح والدم في أبشع مجزرة أدمت القلوب، حتى تداعت بعض قيادات الإدارة الأهلية من بقاع السودان المختلفة تشد على أيدي المجلس العسكري وتدعوه لتجاوز قوى الحراك الثوري، وهللت وكبرت ورقصت على أشلاء الشهداء، فكانت تُحمس (الطار) وتشد العصب، وتُشعل حمى الإستقطاب، بدلاً من لعب دور الوساطة المحايدة لإصلاح ذات البين الذي اشتهرت به الإدارة الأهلية منذ عهود بعيدة، لكن لم تفعل ربما لقناعتها بأنها ليست محايدة، وربما لارتباطها العضوي بالنظام المندحر…
ولم تقف الإدارة الأهلية عند هذا الحد، بل حشدت منسوبيها في أرض المعارض و(صبت) حشودها هناك متكئة على بساط الموائد المترعة بسفه الأحلام لتطالعنا أخبار الصحف بـ “مرمطة” كبارنا في أرض المعارض، وطردهم صاغرين بعد أن قطعوا عنهم الماء والكهرباء، بل وكشفت الصحف “الكم” و”الكيف”، وما لم تكتبه الصحف حتى الآن هو ما نجمع الآن المعلومات بشأنه لنطرح السؤال بعدها “من أين لك هذا؟”.
أعود وأقول: الذين مثلوا الإدارة الأهلية يوم الزينة فقد شوهوا الدور الرائد للإدارة الأهلية التي لم تكن في يوم من الأيام انتهازية تستغل “الظروف” وتمتطي “الفارهات”، بل كانت مستودع الحكمة والنبل وعزة النفس… الـلهم هذا قسمي في ما أملك..
نبضة أخيرة
ضع نفسك دائماً في الموضع الذي تحب أن يراك فيه الـله، وثق أنه يراك في كل حين.