صحيفة كورة سودانية الإلكترونية

الأقليات والكُرْه الوبائي (3)

11

زاوية غائمة
جعفر عبـاس
الأقليات والكُرْه الوبائي  (3)

 


في جميع قارات العالم، بل وعلى مستوى الكرة الأرضية عموما هناك أقليات مكروهة، ويكون ذلك في غالب الأحوال، لأن تلك الأقليات تسيطر على السلطة والثروة، بينما الأغلبية مهمشة، ولهذا فالصينيون مكروهون في إندونيسيا والفلبين وماليزيا، حتى وهم يحملون »جنسيات« تلك البلدان، بحكم طول مدة الإقامة فيها، أو لأنهم »واصلون ومسنودون«، والبيض ذوو الأصول الإسبانية والبرتغالية مكروهون في أمريكا الجنوبية.
واللبنانيون في غرب إفريقيا، لا يتجاوز عددهم بضعة آلاف، ولكنهم تعرضوا لهجمات واعتداءات عنيفة من سكان دول المنطقة، لأنهم سبقوا غيرهم في اكتشاف المعادن الثمينة هناك، وكعادة فاحشي الثراء، فقد أقاموا علاقات قوية مع أنظمة الحكم الفاسدة في غرب إفريقيا، فكان أن صاروا مكروهين أكثر من رعايا بريطانيا وفرنسا، البلدين اللذين استعمرا ذلك الجزء من القارة السوداء لعقود طويلة.
وفي شرق إفريقيا، وتحديدا في كينيا وأوغندا، جاء الهنود في معية الاستعمار البريطاني، وقاموا بالتكويش على قطاعات الزراعة والصناعة والسياحة والصيرفة، فحقّ عليهم غضب الأغلبية الإفريقية الفقيرة، بدرجة أن دكتاتور أوغندا الراحل إيدي أمين أصدر قرارا غير مسبوق، بطرد الهنود من بلاده في غضون شهر واحد مع مصادرة ممتلكاتهم، وكل من تلكأ في مغادرة ذلك البلد غادر الحياة بالفؤوس والسكاكين والعصي.
وتعالوا ننظر حالة دولة مثل الولايات المتحدة، فرغم أنها نصبت نفسها وصية على الديمقراطية وحقوق الإنسان فإنها أكثر دولة مكروهة على مستوى كوكب الأرض، وإذا كانت هناك كائنات حية في الكواكب التي مارس فيها الأمريكان التلصص، فلا بد أنها حرصت على الاختفاء عن عدسات كاميرات المركبات الفضائية والمكوكات الأمريكية، حتى لا يستنتج الأمريكان أنها كواكب تصلح لإقامة بني البشر.
الأمريكان، وهم أمة تشكلت من مغامرين وهاربين من التنكيل )المسيحيون البروتستانت واليهود نموذجا(، بنوا مجدهم على جماجم سكان البلاد الأصليين، الذين صاروا يعرفون بالهنود الحمر -بينما هم لا هنود ولا حمر- وكل ما هناك أن كرستوفر كولمبس كان مطالبا باكتشاف طريق قصيرة للهند، فوجد نفسه في ما صار يعرف اليوم بأمريكا الشمالية، ولو تكتَّم على اكتشافه لاستحق جائزة نوبل للسلام عاما تلو عام، ولكن برغم أنه فشل في مهمته الأصلية، إلا أن العالم كله يعمل على تمجيده كمكتشف الأراضي الجديدة.
جميع الشواهد تؤكد أنه حتى حلفاء أمريكا في أوروبا يكرهونها، وهل قام الاتحاد الأوربي إلا لتشكيل كتلة قوية تقابل أمريكا على الشاطئ الآخر من المحيط الأطلسي؟ وهل تم طرح عملة أوروبية موحدة )اليورو( إلا كترياق مضاد للدولار الأمريكي، الذي هو العملة التي تقاس في ضوئها قيمة سائر عملات العالم وسلعه الأساسية ومواده الخام؟
نجحت أمريكا بالتخطيط الاستراتيجي وسياسة النفس الطويل، في إرهاق وتدمير منافسها الأوحد الاتحاد السوفييتي، وصارت المُصَدِّر الأكبر لديمقراطية السوق وما يسمى العولمة، التي تقود الى تحطيم وتفكيك الدول الضعيفة، أو جعلها مجرد منتج للمواد الخام وسوق للسلع الأمريكية، فكان أن أنشأت البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية، ثم سيطرت على تقنية المعلومات، ولا يوجد في عالم اليوم شخص لا يتعامل مع مايكروسوفت أو أبل، أو أمازون أو فيسبوك.
وبعد بسط سيطرتها على أسواق المال والسلع والخدمات والمعلومات، كان من السهل عليها أن تسيطر على العالم لغويا، بدرجة أن الناس يحسبون أن الولايات المتحدة، وليس بريطانيا، هي مسقط رأس اللغة الإنجليزية، وشيئا فشيئا سيطر الأمريكان على أذواق الناس في كل القارات، فصار مايكل جاكسون أشهر من ماو تسي تونغ في الصين، وليدي غاغا أشهر من غاندي في الهند، وما من عاصمة كبرى في العالم إلا وسعت لاقتناء نسخة من مدينة ديزني أمريكية المولد والنشأة.
كل هذا وعدد الأمريكان أقل من ثلث عدد سكان الهند، أي أن الأمريكان أقلية وسط أكثر من ستة بلايين شخص في عالم اليوم، وبالتالي فهم مكروهون، لأن ما بأيديهم من مال وسطوة وقوة لا يتناسب و»حجمهم الإحصائي«.
ولا شك عندي في أن كراهية مختلف الشعوب للولايات المتحدة لها ما يبررها، ولكنها كراهية لا تخلو من »حسد«: كيف ينجح شعب هجين لم يتشكل بعد كأمة في تسيّد الساحة الدولية و»نحن بنينا سور الصين العظيم.. وشيدنا حدائق بابل المعلقة.. وبنينا الأهرامات ودهنا الهواء دوكو، وحالنا حال؟

قد يعجبك أيضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبولقراءة المزيد