ما ان يلوح رمضان في الأفق.. الا وتجري عمليات استعداد في كافة البيوت لاستقباله.. نظافة وترتيب.. وإدخال وإخراج.. كانت أمي رحمة الله عليها تخرج (عدة رمضان) قبل يوم او اثنين من بداية الشهر.. تنظفها وترتبها.. كانت تحتفظ بها في (كرتونة) أعلى (النملية ) في المطبخ.. أهم اعضاء عدة رمضان أربعة (كواري) كتب على جنباتها (رمضان كريم).. مع بعض الرسومات الصغيرة نجوم متفرقة وهلال.. أكبر واحدة للحلو مر.. التي تصغرها لعصير الليمون.. اما الاخريات واحدة للتمر والثانية للبليلة..
صوت الملعقة وهو يصطدم بجنبات (الكورية)..حوالي الساعة الثالثة ظهرًا.. يعني ان الوالدة بدأت في اعداد العصائر.. تصفية الحلو مر.. وعصر الليمون يدوياً .. مما يعني بالضرورة حوجتها الينا أنا و أخي عزو (للضواقة ).. كنا نحمل أكواباً صغيرة ونجلس بالقرب منها ونتحايل بأن الكمية كانت صغيرة (ما عرفنا السكر كفاية ولا للا).. وكانت تضحك من خبثنا وتزيد لنا كمية العصير.. اعتقد انها كانت تعلم بالضرورة كمية السكر.. لكنها كانت تجاري عقولنا الصغيرة فقط لا غير.
بعد ان كبرت ودخلت الجامعة.. قدت حملة شعواء على تلك (الكواري).. بحجة انها صارت غير مواكبة للتطور.. وصرت كلما ذهبت لصيام رمضان في عطبرة.. أرتب لعمل انقلاب داخلي لاحلال (الجك ) بدلاً عن (الكوريه) (يا أمي مافي زول هسه بشرب العصير من الكوريه.. دي ذاتها حاجة ما صحية.. الناس بقت تطلع العصائر بالجك.. ومعاها كبابي.. ).. كانت تستمع لحديثي وصوت الملعقة يصطدم بجدار الكوريه.. استعنت بالوالد .. حكيت له كل دفوعاتي.. للتطور ومواكبة العصر.. والاهتمام بالصحة ونقل العدوى.. لكن ذلك لم يجدي نفعا كان رده ان جيرانه ورفقاء البرش (حاج الشيخ الولي ) و(حاج عباس نقد).. هم وأولادهم.. يخرجون العصائر.. في (الكواري).. من أين اتيت بقصة (الجك) هذه ؟
ضحكت أمي حينها .. كانت تعرف ان أبي لن يقف معي ضدها.. هزت رأسها وقالت (يا ناهد أنا مش قلت لي نادية اختك قبل كدا.. ما تصاحبي الناس العندهم قروش كتير ؟ تتذكري) هززت رأسي بأن نعم.. رغم ان الذين تحكي عنهم أمي كانوا زملاء دراسة.. والمدرسة كانت تجمع الغني والفقير ومتوسط الحال.. لم يكن الأمر كما هو الآن.. استطردت قائلة (قلت الكلام دا.. عشان عينكم ما تمشي تشوف حاجة تانية وتجي ما تعجبكم الحالة عندنا).. الشغلانة جابت ليها برجوازية وبروليتاريا.
اضطررت أن أسحب دفوعاتي.. لم يكن التوقيت جيدا للتغيير.. ..فقد كنت في ذلك الوقت أمثل الحداثة مقابل الموروث.. تخيلت نفسي بطل قصة دومة ود حامد رائعة الطيب صالح مع الفارق طبعاً.. صارت قضيتي.. (الجك) بدلاً عن (الكورية)..رمضان الذي تلاه.. ذهبت الى السوق واشتريت عدد أربعة (جكوك).. حملتها معي في قطار المحلي (داخل عطبرة).. وأول يوم رمضان.. تزينت صينية الحاج قرناص (بالجكوك )..ورضخت أمي للأمر.. لكن أبي أتى بعد (شراب الموية) ليقول ان (الجك )لم يرو عطشه.. أظنه قال ذلك لكي يرضي أمي.. . لكنها استمرت في استخدام (الجك) حتى آخر عمرها.. رحمة الله تغشاهم أجمعين.
كل تلك الذكريات اتت الي دفعة واحدة.. وأنا أحاول بالأمس ترتيب المطبخ لرمضان.. اذا بي أعثر على واحدة من (كواري رمضان كريم ).. قابعة ضمن الأواني التي أخذتها بعد وفاة الوالدة من منزلها.. كانت وحيدة وسط أواني غريبة عنها.. أحسست انها تلومني على كل ما حدث.. هل كان يمكن ايجاد حل آخر ؟ كأن تخرج يوم والجك يوم آخر ؟.. لا أدري.. كل الذي أعرفه انها فتحت بابا للذكريات صعب علي إغلاقه.. فكان هذا المقال.. رمضان كريم.