كثيرون وقفوا على مُقارنتي بين الصور والمشاهد الزاهية والمُشرِّفة في مُباراة الهلال والمريخ باستاد أبوظبي في مئوية الشيخ زايد؛ وما يحدث في الاستادات الوطنية من مظاهر وظواهر سالبة وصلت في مرَّات لتحطيم المقاعد واللافتات والاعتداء على الحُكَّام.
ذكرتُ في المقال السابق: سألتُ نفسي: لماذا نحن بهذا الجمال والمثالية خارج بلادنا، وما أن نعود إليها تنقلب الصورة ويندلق الحبر ويعوجُّ الظلُّ وينشقُّ العود وتضيقُ الأرض؟!
هل ما حدث باستاد محمد بن زايد نوْبةٌ جماليةٌ عابرةٌ، سرعان ما تذوب وتتلاشى، ثم تُعيدُنا الأيَّام إلى قديم الشقاق والجفاء وحضيض المُهاترات،
هل ما حدث وأَسَرَنا وأفرحنا هو الأصل المخفيُّ خلف ركام الإحباط، أم أن العرض الجمالي كان طارئاً، نزولاً على قاعدة (يا غريب خليك أديب)؟!
أضحكني أحد الأصدقاء بتفسيرٍ طريف: قال لي إن الجمهور الذي جاء لاستاد محمد بن زايد، رجالاً ونساءً وأطفالاً، حضر للترفيه.
أما جمهور الاستادات الوطنية، فيأتي إليها لإفراغ غيظه اليوميِّ في شتيمة الحُكَّام واللاعبين والمُدرِّبين.
-2-
لا أعتقد أن أحداً يُجادل في حقيقة أن سلوك المغتربين السودانيين وأداءهم في الخارج، على وجه العموم، أفضلُ بما لا يُقارن من سلوكهم وأدائهم داخل البلاد.
أتَّفق مع رأي من يُبرِّرون ذلك الاختلاف اللافت، لفارق بيئة الحياة والعمل بين السودان ودول الخليج، بالإضافة إلى ما يجده أغلبُ المغتربين من مقابلٍ ماديٍّ يُغطِّي احتياجاتهم الحياتية الأساسية، وفي مُقدِّمتها الصحة والتعليم، فضلاً عن الترفيه.
-3-
لا أتَّفق مع من يُقلِّلون من خطر الاغتراب، خاصَّةً في المجالات الصحية والتعليمية، وغيرها من التخصُّصات الحيوية.
من الصعوبة إقناع أيِّ شخصٍ يملك مؤهلات مطلوبة في سوق العمل الخارجي، مهما كانت وطنيَّتُه، بالبقاء في السودان ليعمل في بيئة مُتردِّية تعوزها حتى المُقوِّمات الأوَّلية، بمُقابلٍ ماديٍّ لا يفي أدنى احتياجاته الضرورية.
-4-
كلَّما تطاولات صفوف الخبز والوقود، وغابت الأدوية عن أرفف الصيدليات – وما وُجِدَ منها غلا ثمنه واستعصى نواله -؛ ازدادت أفواج وجحافل المُغتربين.
سيكون الاغتراب ظاهرةً حميدةً واستثماراً وطنيَّاً ناجحاً، إذا كان مردوده الاقتصادي يُسهم في إقالة عثرة عملتنا الوطنية.
البلاد الآن تُصاب بمُتلازمتين: فقدان الكوادر المؤهلة – أو نزفها بالأصح – كما أنها لا تجد في ذلك مقابلاً مالياً من العملة الأجنبية، يُعوِّضها بعض تلك الخسائر.
الآن يحدث ما هو أخطر: تحوَّل عدد كبيرٌ من المُغتربين من أصحاب المُؤهِّلات والخبرات إلى مُهاجرين للإقامة الدائمة في الدول الغربية.
لم يُهاجروا بأُسرهم الصغيرة فقط، بل كثيرٌ من هؤلاء شرعوا في ترتيب أوضاع أُسرهم الكبيرة في الدائرة الأقرب خارج السودان، في القاهرة ودبي.. ألم تذكر جهاتٌ رسميةٌ قبل أيام، أن السودانيين امتلكوا أكثر من ستمائة ألف شقَّة بمصر؟!
-5-
للأسف، ما يزال التعامل مع قضايا الهجرة والاغتراب، أقلَّ بكثيرٍ مما هو مطلوب؛ فمهما اجتهد جهاز المغتربين وأُوتي من إمكانيات، لن ينجح في تقليل مخاطرها وزيادة مكاسبها.
الأزمة أكبر، ونطاقها أوسع، لأنها مُرتبطةٌ بأزمة الاقتصاد الكُبرى.
-أخيراً –
إذا لم تتحسَّن الأوضاع الاقتصادية ويستقر الوضع، أخشى أن نُواجه بعد الانتقال من الاغتراب إلى الهجرة؛ ظاهرة الهروب، استجابةً لدعوة الشاعر الشاب خالد حسن بشير:
فلنرحل الآن بعيداً عن بلاد
لا تُوفِّر للمساء قصيدةً أبداً
ولا ترعى سنابل.