في الموسم الماضي، أنتجت البلاد قطناً لم يكن مُتصوَّراً، فصدَّرته أبيضَ وعاد أخضرَ إبراهيميَّاً. ولعل الفضل في نجاح الموسم السابق يرجع جزئياً إلى تجربة الزراعة التعاقدية، التي جعلت الدولة تجني تلك الدولارات، وهي لم تُموِّلْ ولم تُسلِّف، ولم تجدع ولم )تجيب الحجار(، بل خلَفَتْ رجلاً على رجلٍ وأخذت دولاراتها من صادر القطن. أما بالعملة المحلية فقد أخذت ضريبتها )الجزافية(، وبحبح موظفيها في الإدارات الزراعية، وفي الريِّ آخر بحبحة. موظفو الإدارات الزراعية توسَّعت دخولهم، فمن غير الضريبة التي وفَّرت لهم المُرتَّبات والحوافز والذي منه، ودخلوا في اتفاقيات جانبية مع الشركات المُتعاقدة ومع التأمينات )اللهم لا حسادة لكن برضو المنشار ما كويس(.. المهم في الأمر، أن الناس وصلوا لخلاصات مفادها أن الزراعة التعاقدية فكرة مُتطوِّرة ومُثمرة، وهي فعلاً كذلك، لكن نسي الناس أن أكثر من خمسين في المائة من المساحة التي زُرِعَتْ قُطناً لم تكن بالزراعة التعاقدية، إنما بالتمويل الذاتي من المزارعين، وهذا تطور أكثر إيجابية، ويستحق التوقُّف والإشادة.
)2(
والحال كذلك، كان من الطبيعيِّ أن تتضاعف المساحة المزروعة قطناً هذا العام. ولعل هذا ما حدث، إذ توسَّعت الزراعة التعاقدية، وتوسعت كذلك الزراعة بالتمويل الذاتي، فالمهم في الأمر أن القطن الأبيض عاد للسودان بقُوَّة الدولار الأخضر، ولكن مع مُتغيِّر بسيط هذا العام، وهو أن الشركات الذي دخلت في الزراعة التعاقدية مع المزارعين، لم تكن بذات الهمَّة التي كانت بها في الموسم الماضي؛ ففي الجزيرة مثلاً هناك بعض الشركات لم تَفِ بنصف تعهداتها مع المزارعين، خاصَّةً السلفيات، وهناك شركات نقصت المدخلات، وهناك شركة زادت من أعباء المزارع في عقد الشراكة، وكذا الحال في الرهد، ففي ندوة )سودانية 24( عن القطن، قال أحد المتحدثين من المزارعين إنه لحظ أن الشركات بذلت الغالي والنفيس في المشاريع التي تملكها، بينما في الزراعة التعاقدية اعطت فضول أموالها. خلاصة قولنا )في الحتة دي(، أن بعض هذه الشركات بدأت )تلعب بديلها(، فأظهرت وجهاً رأسمالياً مُخيفاً على حساب المزارع، ولكن لحسن الحظ المزارع، ولعلمه أنه المستفيد الأول، أكمل الناقصة، وتجاوز قصور الشركات. هذا بالإضافة إلى أن قرابة نصف المزارعين كان تمويلهم في الأصل ذاتياً. عليه فإن الإنتاجية مُبشِّرة، وستكون إن شاء الله ضعف إنتاجية الموسم السابق، هذا على أقلِّ تقدير.
)3(
الآن منظر القطن في الغيط يسر الناظرين، وكُلُّ الفروع الخضراء تثنَّت من البياض، وكادت تُلامس الأرض، وبدأت عمليات الحصاد، فظهرت مشكلة الأسعار، فالشركات رغم تقصيرها أو على الأقل بعضها، ورغم ارتفاع اسعار المُدخلات؛ تُصِرُّ على سعر التعاقد الأول، الأمر الذي سيجعل المزارعين لا يفون بتعهداتهم مع تلك الشركات، فيهربون بقطنهم لـ)سوق الله أكبر(، وطبعاً هذا تصرُّفٌ غير اخلاقي سوف يهزم التجربة، ثم ثانياً السعر المعروض في السوق الآن في متوسطه يبلغ ألفَي جنيه للقنطار يزيد في بعض المناطق وينقص في أخرى. )أخبرني أحدهم وأنا أكتب هذا المقال، أنه بلغ ألفين وأربعمائة جنيه جنوب مدني(، هناك اتفاق أنه لولا وجود الصينيين في السوق، لكان السعر منخفضاً، والخوف من أن ينجح الذين يسعون لإقناع الحكومة بتوقيف الصينيين عن الشراء، ومع ذلك ليس هذا هو المهم، بل المهم أن الفرق بين السعر المحلي والسعر العالمي كبيرٌ جدَّاً. بسعر الدولار لدى لجنة صناع السوق القنطار العالمي )طبعاً وحدة سعر القطن هي الرطل(، لامس سقف الأربعة آلاف جنيه )قول ثلاثة ونص(. عليه واختصاراً للكلام، فإننا نُطالب الدولة بالانتباه المُبكِّر لأمر القطن، ويُمكن التفكير إلى تكوين لجنة من جميع الشركاء لوضع سعر تأشيري مُجْزٍ للقطن، أي لا بأس من لجنة صناع أُخرى.