استقال حمدوك ومضى لحال سبيله بما له وما عليه، فأراح منتقديه وأراح نفسه، بعد أن قدم ما وسعه الجهد والتقدير ما حسب أن فيه الخلاص من الأزمة السياسية المستفحلة التي صنعها الانقلاب، فحتى لو أخطأ التقدير فله أجر المجتهد، وبعد ذهابه انجلى الميدان عن فسطاطين فقط، فسطاط الثوار وكل الرافضين للانقلاب في الشارع، وفسطاط الانقلابيين بقيادة البرهان المتمترسين خلف التروس والبنادق، ولم تعد هناك منطقة وسطى كان يقف فيها حمدوك، واذا كان حمدوك قد ناء ظهره بحمل أمانة التكليف التي حملته الى رئاسة الوزراء، بفشل كل مساعيه للملمة شعث وشتات الخلاف واصطدامها بتعنت كبير، وعيل صبره من لؤم الانقلابيين وخبثهم وخرقهم لاتفاقه معهم، فلم يتركوا له خيارا ولم يجد مسوغا اخلاقيا يبقيه على رئاسة الوزارة، فتحلل عن الأمانة وأعادها الى صاحبها الشعب، فاستحق أن نقول له شكرا جزيلا أيها النبيل، ونأمل ان لا يتم ملء مقعدك الذي اخليته على طريقة استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير، وبعد استقالة حمدوك يبرز السؤال المشروع، ما الذي بحق الله يبقي قائد الانقلاب ومجموعته في مواقعهم السيادية بعد أن رفضهم الشعب صاحب السيادة والسلطة، الا يعتبروا بالدرس البليغ الذي قدمه حمدوك باستقالته، فيمتثلوا لارادة ورغبة الشعب ويعلنوا استقالتهم وعودتهم الى الثكنات لبناء جيش قومي قوي وموحد، بدلا من هذه الجيوش والمليشيات المتعددة التي تهدد أمن البلاد القومي بأكثر مما يهددها الغزاة، فكل ميسر لما خلق له، ولكن للأسف ما نراه منهم حتى اليوم لا يشي الا ب(الكنكشة) على السلطة حتى لو قتلوا ثلثي الشعب، ربما تأسيا بفتوى علماء السلطان للمخلوع..
ولكن قل لي من أين لربائب النظام البائد الذين تربوا وترعرعوا في كنفه، حتى شبوا وشابوا على حب السلطة والتشبث بها بالقهر والقتل والسحل، وكنز المال بالحلال والحرام، ان يتأدبوا بأدب الاستقالة، هذا الأدب الراقي الذي لا يعرفه الا المتحضرون النبلاء الشجعان، الذين يقبلون على تقديم استقالاتهم برضاء نفس تام حتى لو أخفقوا في هنةٍ بسيطة، دعك من أن يقتلوا المتظاهرين السلميين بالعشرات، اذ انهم تربوا على سؤ أدب النظام الذي انحدروا منه، فلم يعرفوا مثلهم أدب الاستقالة، بل ربما يكونون مثلهم حتى في استنكار مبدأ تقديم الاستقالة ورفضها ابتداء، فمن هذا النوع أذكر المتنفذ في النظام البائد علي كرتي الذي سئل مرة عما اذا كانت راودته فكرة تقديم استقالته، قال كرتي ردا على السؤال لم أفكر في تقديم استقالتي لأنها هروب.. ومن قبل حين اشتدت أزمة المياه بالعاصمة خلال العهد البائد، سألت إحدى الصحف مدير عام هيئة مياه ولاية الخرطوم، إن كانت لديه الرغبة في تقديم استقالته، بعد عجزه عن حل أزمة المياه.. فكر المدير وقدر فقال: لا لن أستقيل من منصبي، لأن الاستقالة تعني التولي يوم الزحف، هكذا قالها وكأنما هو في أتون حرب ضروس شعاره فيها إما حياة تسر الصديق وإما ممات يغيظ العدا..ولكن مع تصميم الثوار ان لم يذهب هؤلاء بالاستقالة سيذهبوا بالاقالة وعليهم ان يختاروا الخيار الذي يغادرون به، فالوضع الآن لا يحتمل وجود الثوار والانقلابيين في مكان واحد، على رأيهم (العسكر للثكنات والشارع للمكنات)..