من استمع لكلمة الفريق حميدتي في تأبين الشهيد مبارك نميري يلحظ بوضوح أنّ ما يدور في غرف السلطة المُغلقة لا يُبشِر بخير، ومن أين لنا بالخير..؟، والدخان المُتصاعد يدُل على نارٍ يعمل من ينفخون في كيرها بجدٍ واجتهاد على اشعال جذوتها لتقضي على ما تبقّى لنا في هذه البلاد، رضينا أم أبينا فحميدتي رسمياً هو الرجُل الثاني في الدولة، وأي كلمة تصدُر منه يجب الوقوف عندها وتحليلها للوصول إلى معناها الحقيقي، وهو أعلم منّا بحُكم منصبه بالخفايا والأسرار، وحديثه عن أنّ الثورة لم تُحقِق شيئاً إلى يومنا هذا سوى سجن البشير حديث خطير يجب الوقوف عنده، وما من تفسير لما قال سوى أنّ المُمارسات داخل الصالون الرسمي للدولة هي نفس المُمارسات القديمة، والأفعال كما هي.
جاء حميدتي في خطابه بمثلٍ سوداني عميق يقول (الشلاقي ما خلى أعمى) والشلاقي لمن لم يسمعوا بهذه المُفردة هو بصير العُيون ومُعالجها في زمان ما قبل الطب الحديث، فقد أورد الرجُل المثل وضمّن فيه رسالته بأنّه استيقظ من غفوته، وتكشّفت عنده أخطاء الماضي، وانتهى عنده زمان الغفلة، وفي إشارة منه أيضاً لتشبثه بالسلطة وقد تجلّى ذلك في قوله بأنّ المقعد الأول والثاني في الحُكم قد تحرّرا، وقد اتاحتهما الثورة لكُل سوداني، فلماذا يستكثر عليه البعض الجلوس فيهما وهو أولى من غيره، وقد كان أحد أهم أسباب نجاح الثورة ولولاه لظلّ البشير فينا إلى يومنا هذا كما قال..!!!!!
لست وحدك يا سعادتك فالشلاقي غِشانا أيضا، وأعاد لكُل أعمى فينا بصره بعد سنوات طويلة من فقدانه، فقد أصبحنا أكثر يقظة وما عادت الأشياء تمُر علينا كما كانت من قبل، وبتنا أكثر وعياً وادراكاً لما يجري حولنا، وفينا جاهزية لحماية نفسه مما يُحاك ضده وحماية ثورتنا من أي مُتربصٍ طامِعٍ فيها، ستنقضي سنوات الانتقالية بإذن الله وسيعود الأمر بكامله للمواطن لتفويض من يرى فيه صلاح البلاد وإقصاء من جاءته الفرصة وفشل في اغتنامها بانجازات تُخلِّد أسمه في سجل بُناة السودان، والصناديق إن لم يطالها التزوير هي الفيصل بين الصالح والطالح.
ماذا يدور من وراء المواطن ولمصلحة من..؟
يقيني بأنّ الخاسر من هذا الوضع المُضطرِب هو المواطن، والبلاد كما ترون تمضي في طريقٍ لم يختاره أهلها، ومن جاءت بهم الصُدفة للإمساك بملفاتٍ الحُكم انشغلوا بمصالحهم، وتجاهلوا مصالح الشعب الذي صبر وكافح وخرج للطُرقات ينشُد التغيير ونسف حُكم البشير، ما أخرجه حميدتي من هواء ساخِن يدُل على تصدُع خطير في جُدرانِ السُلطة، ويدُل على أنّ الفجوة بين من يحكمون اليوم تتسع مع كُل صباح جديد، والدليل أنّ كُل من يخرُج علينا منهم يجأر بالشكوى من أفعال رفاقه، ويُحاول تبرئة نفسه من العبث الذي يدور.