تلقيت دعوة لحضور مراسم زواج دولي ..العريس من احدى الدول الاسكندنافية ..والعروس سودانية مية المية ..اييه يا زمن ..صرنا نزوج بناتنا ليس فقط لجنسيات عربية وافريقية ..انما تجاوزنا البحار ..وبلغنا السويد والنرويج وبلاد تموت من البرد حيتانها ..صديقتي التي تلقت معي ذات الدعوة ..هزت رأسها يائسة ..قالت (الزيجات الزي دي …ما بتعمر كتير ..ثقافات مختلفة تماما ..حتى اللغة ..تلقيهم يعتمدوا الانجليزي كلغة للتفاهم في البيت ..بعدين يجوا الاطفال يشرحوا لي كل واحد ما يقصده التاني)..على النقيض كنت أنا ..متحمسة (عايني للجانب المضئ من الموضوع ..ناس زي ديل بيصنعوا التاريخ ..عندك مثلا ..بعد فترة ..حتكون في قبيلة كاملة اسمها السويداب ..ولا النرويجاب ..نسبة الى جدهم سويد ابن نرويج الاسكندنافي)..
تذكرت قصة لا تنسى ..في القرن الماضي ..كنا عائدين بقطار الاكسبريس من وادي حلفا ..بعد اجازة ثلاثة أشهر حسوما ..قضيناها في حلفا كعادتنا كل عام ..اعتقد ان أبي كان يخاف ان تنسينا اللغة العربية ..اعجميتنا ..لذلك كان يحرص على الذهاب كل عام الى أقصى الشمال ..قطار الاكسبريس ..كان يتوقف لمدة أطول في محطات معينة لاغراض شتى ..منها محطة نمرة 6 ..حيث تأتي لواري المحس ..ليلحقوا القطار في طريقه الى (البندر) ..تلك المرة ..كانت اللواري صاخبة ..تطلق (البوري) بنغمة جميلة ..تتعالى أصوات الغناء بالنوبية (اللي ماري ماري تود يا مصلي على النبي )..ارتفعت زغاريد النساء ..وهن يحملن جريد النخيل ..انتشرت الفرحة في كل ارجاء القطار ..مددنا رؤوسنا كل يمني نفسه بأن تكون (سيرة العريس ) من نصيب عربته ..وقد كنا نحن المحظوظين.
استقرت النسوة في القمرة المجاورة ..وبعضهن افترشن أرضية العربة ..(كالعادة كان العدد أكبر من الذي تخيله العريس عند حجز التذاكر) ..بدأت جدتي (رحمها الله) تتجاذب أطراف الحديث مع النسوة ..من وين ؟ وماشين وين ؟ قلن لها ان العريس يريد الذهاب الى منطقة في وسط السودان للزواج من زميلته الجامعية ..اها ..عينك ما تشوف الا النور ..جدتي صرخت فيهن ..بالنوبية (اركوني ..بروي اللي دفسا) ..هل اختفت الفتيات في منطقتكم ؟ وأصبحت تضرب كفاً بكف ..وتتحسر على زمن يقطع فيه العريس الفيافي ليتزوج من ناطقة باللغة العربية ..تاركاً بنات عمه وبنات خالاته ..ومن ثم تشهدت ورددت ان القيامة ستكون قريباً بعد هذا الفساد الذي عم القرى والحضر.
أذكر ان أمي رحمها الله أصابها الاحراج ..وبدأت في محاولة اصلاح ما قالته الجدة (والله انا اخواتي كلهن تزوجوا من قبائل تانية ..ناس ما شاء الله عليهم ..بس عمتي دي عشان ما قاعدة تطلع من حلفا كتير ) ..لكن جدتي لم ترضخ ..أكملت ما كانت تقوله موجهة حديثها لام العريس (تفاب ديسوا ..هجمونوا؟ تنين ديسوا هجمونوا ؟ هوي ايدن ار وتا؟) ..تعني ان مات ابوها ..مش حتسافروا ؟ ..لو ماتت أمها مش برضو حتسافروا؟ يا زولة انت جنيتي ؟؟ .ام العريس التزمت الصمت احتراماً لجدتي ..وربما انتبهت لأمي التي كانت تغمزها ضاحكة ..لكن يقيني ان جدتي (مسخت عليها ) السيرة ..
رحم الله جدتي ..ماتت قبل ان ترى الزواج الدولي ..عبر البحار ..ودونه تأشيرات وطلبات اذن زواج وحاحات وشنو وشنو ….ها قد اظلتنا ظاهرة السيرة بالطيارة ..ففقد تغيرت المفاهيم ..وتطورت العلاقات الدبلوماسية.. وصرنا نؤيد تلاقح الثقافات ..واختلاط الجينات ….يجوك عيال (خاتف لونين) ..راقيين ومحبين للطبيعة والحيوانات ..رافعين شعار حقوق الانسان ..كما اننا ننتهز الفرصة ونلفت نظر الامهات لامتيازات عديدة للزواج الدولي.. مثلاً مافي موية رمضان ..ولا فطور عريس ..والأهم ..ناس العريس كلهم حيقعدوا في تربيزة واحدة ..يعني مافي قصة ناس العريس ما اتكفوا ..ولا العشاء قصر ..الجماعة صينية واحدة تكفيهم ..شفتوا كيف ؟؟ فيا أيها الأب .. ان اتاك العريس الخواجة خاطبا ود ابنتكم …(عليك الله ما تقول ليهو ..لا ).