اختطف فيروس الكورونا الكثير من الاهل والاحباب والاصدقاء ولم يترك اسرة الا وغرس فيها مخالبه السامة وأغرقها في الدموع والأحزان، واثبت ان الانسان ليس سوى كتلة من الشر والضعف يصنع المرض بيديه ويعجز عن حماية نفسه منه، ويهدر مليارات الدولارات كل يوم على صناعة الاسلحة والجراثيم والحرب والقتل والدمار الشامل والمؤامرات ويبخل على التعليم والصحة والغذاء .. يتحمس للشر أكثر ملايين المرات من ما يتحمس للخير، ويهزمه فيروس صغير جدا من صنع يديه .. تخيلوا حال العالم اليوم لو كانت المليارات التي تُهدر على اعمال الشر تُنفق على اعمال الخير !
فُجعت في اليومين الماضين بوفاة صديقين عزيزين، طاهرين عفيفين صادقين مع نفسهما ومع الآخرين، تميزا بإتقان عملهما ومحبة الجميع، كما تميزا بالشجاعة والجرأة في مواجهة المواقف الصعبة .. هما المهندس المدني المرحوم عبد السلام محمد عبد السلام العجيلي، والطبيب البيطري الدكتور حمزة باهى السيد، الأول من أبناء أم درمان، والثاني من الأبيض وأم روابة، ولد كلاهما وتربى في اعرق الاسر والاحياء، ودرسا في اعرق المدارس والجامعات ونهلا من عراقة هذا الشعب الكريم، وانعكس ذلك على كل جوانب حياتهما وخصالهما الكريمة.
التقيت بعبد السلام بمدرسة أم درمان الأهلية الوسطى التي تغير اسمها بعد تغيير السلم التعليمي الى مدرسة أم درمان الاهلية الثانوية العامة، وانتقلنا سويا الى مدرسة أم درمان الاهلية الثانوية العليا، ثم الى جامعة الخرطوم، ورغم المنافسة الأكاديمية التي كانت بيننا وزملاء آخرين، وكان اولنا وانبهنا، إلا أننا كنا أصدقاء نذاكر سويا ونأكل الفول والبوش يوميا مع بعض ونتشاكس بمحبة حيث كان من مشجعي المريخ بينما كنت من مشجعي الهلال، ولم نفترق إلى أن اصطفاه الله الى جواره يوم الجمعة الماضية، غير ان روحه الطاهرة ستظل تحلق فوقنا بسيرته العطرة وخصاله الحميدة وأعماله العظيمة!
عمل المرحوم فترة طويلة في وزارة الاشغال والمؤسسات الحكومية المشابهة بعد حل النظام البائد للوزارة ليسرح ويمرح على كيفه ويتلاعب في تصديقات البناء وشراء المواد ولجان العطاءات حيث كانت وزارة الاشغال هي المسؤول الأول عن هذه الاعمال وحائط الصد ضد الفساد، وبحلها فسد كل شيء!
وكانت له قصة نضال شهيرة ضد قضية فساد كبيرة في وزارة التخطيط العمراني بولاية الخرطوم تتعلق بخصخصة شركة الخرطوم للإنشاءات، كنتُ طرفا فيها بالكتابة عنها عدة مرات ودخلت بسببها مع المرحوم وبعض شباب الوزارة الشجعان أذكر منهم عبد الحميد كرار وعبد الرحمن محمد إبراهيم، الى معتقلات نيابة الجرائم الموجهة ضد الدولة أكثر من مرة وواجهنا الكثير من الظلم والعنت والمشقة ولكننا لم نتقاعس او نجزع، وظل عبد السلام ورفاقه يناضلون في كل المواقع من أجل كشف الفساد والمفسدين الى انتهى الحال بهم الى الاحالة الى الصالح العام!
تميز عبد السلام بالصبر والجلد والعزيمة، وأذكر هنا على سبيل المثال انه تقدم باستقالته من كلية الطب بجامعة الخرطوم بعد عام من الدراسة فيها وكان قد إلتحق بها إرضاءً لاسرته التي يعمل معظم أبنائها في المهنة، وعمل مدرسا لمدة عام واحد جلس في نهايته لامتحان الشهادة الثانوية بكامل موادها ونجح بتفوق والتحق بكلية الهندسة، وعندما أحيل الى الصالح العام، أسس شركة مقاولات صغيرة مستعينا بعدد من زملائه المفصولين، ظلت تنجح وتتطور الى ان اصبحت من شركات المقاولات الكبيرة بمثابرته ونزاهته الامر الذى اكسبه احترام العملاء، كما كان رقيقا كالنسيم وخادما للجميع ومجاملا في كل الظروف والمناسبات !
والتقيت بحمزة بكلية الطب البيطري بجامعة الخرطوم وعشنا أجمل السنوات، تميزت بالحب الصادق والصداقة الحقيقية التي امتدت الى الاسر وظللنا سويا بعد التخرج حتى لحظة وفاته، وسيظل خالدا في قلوبنا بخصاله الجميلة واسهاماته الكبيرة في العمل المهني والنقابي حيث كان خير قائد لزملائه، وتميز بالهدوء والصبر والرقة والبشاشة !
ما اشق فراق الاحبة، ولكننا لا نملك إزاءه سوى الصبر، ولا نقول إلا ما يرضى الله، أسأل الله للفقيدين الكبيرين الرحمة والمغفرة، وأن يلهمنا واسرتيهما واصدقائهما الصبر الجميل، لا حول ولا قوة إلا بالله، إنا لله وإنا إليه راجعون!