الأماتونج : اخبار السودان : جريدة اندبندنت البريطانية
وُصفت الخطوة التي اتخذها النظام السوداني السابق بإغلاق المراكز الثقافية الإيرانية في السودان عام 2014 بـ”غير الجادة”، إذ إنها حصرتها في تجاوزها للتفويض الممنوح لها والاختصاصات التي تحدّد عملها. وتجددت المطالبات الآن بعد ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018 بتجفيف الوجود الإيراني في السودان الذي نجح في التخفي في مفترق الطوائف الدينية والطرق الصوفية.
يرى إسلاميون أن طهران ستكون ملجأً مناسباً لهم لكن تاريخها يؤكد أنها لا تحبذ الاحتواء الكامل
وما يلفت النظر إلى العلاقة بين النظام السابق وإيران، دفاع الأخيرة عن الإخوان على إثر بيان “هيئة كبار العلماء” في السعودية بأن “الإخوان المسلمين” جماعة إرهابية لا تمثّل منهج الإسلام، ومن قبله استضافة أفراد النظام السابق في تركيا وسط ترحيب إيراني وتكهنات بأن محطتهم الثانية ستكون طهران.
وحدة الشعارات
من ينظر إلى العلاقات الإيرانية مع جماعة “الإخوان المسلمين” في السودان يراها وكأنها هُلامية، مستندة إلى علاقة طهران بالإخوان في مصر. وفي هذا جزء من الحقيقة، لكن الأهم أن أبعاد الاهتمام الإيراني بالنظام الإسلامي في السودان تمتد إلى أكثر من كونها علاقة أيديولوجية وتتجاوزها إلى مشاركة النظام السابق في دعم حركة “حماس” وبث العداء لإسرائيل وأميركا.
بل إن ذلك تأسس في إطار مثلث استراتيجي يتعلق بموقع السودان وإطلالته على القرن الأفريقي، إذ تظن إيران أنها بحركة “حماس” في غزة و”حزب الله” في لبنان والنظام السوري قد طوّقت إسرائيل ومصر، وأن السودان سيضمن لها تطويق القرن الأفريقي، وسيكون عينها على البحر الأحمر وبحر العرب، وهو امتداد يصل إلى الحوثيين في اليمن.
أما التنظيم الإسلامي في السودان فمثله مثل نظيره في مصر، كان يرى أن الثورة الإيرانية عام 1979 ستعيد أمجاد الفكرة الثورية الإسلامية، ثم عندما جاءت حكومة الإنقاذ رأت أنها ستكون مكمّلة للدولة الدينية. أشار المحبوب عبد السلام في كتابه “الحركة الإسلامية السودانية… دائرة الضوء خيوط الظلام… تأملات في العشرية الأولى لثورة الإنقاذ” إلى أن انقلاب البشير الذي سُمّي بـ”ثورة الإنقاذ”، رافقته عبارة “أول حركة إسلامية تبلغ السلطة في العالم السنّي”، في مقاربة مع الثورة الإيرانية التي كانت قبلها بعشر سنوات مؤسسة لنظام الجمهورية بوصفها شيعية.
وأضاف عبد السلام أن الحركة الإسلامية في السودان احتفت بالثورة في تظاهرة ضخمة، كما احتفوا بعودة الخميني إلى طهران، وزار وفد من المنظمات الطلابية إيران ملتقياً الخميني. وبعد قيام الإنقاذ، أخذت كثيراً من شعارات الثورة الإيرانية مثل “الأمة الرسالية لا تُهزَم” و”الشهيد روح التاريخ” و”إذا خُيِّرتَ بين الحركة والسكون فاختر الحركة” وغيرها. وأورد بعض مرافقي الترابي في مقابلته الخميني أنه اقترح عليه تسمية الخليج العربي باسم “الإسلامي”، تماشياً مع شعارات الثورة الإيرانية، لكن الخميني لم يُبدِ ارتياحاً لذلك الاقتراح.
القطيعة مع إيران
مهّدت تلك النشاطات إلى تكوين علاقة ثنائية بين السودان وإيران، خصوصاً بعد تعرّض الخرطوم للضغوط والعقوبات الدولية، وهو ما صوّرته طهران استهدافاً لنظام إسلامي لدولة رأت من خلالها ضرورة التكاتف لمنع الضغوط الغربية. وقابلت ذلك حماسة من نظام الإنقاذ السابق، إذ ظل يتلقّى الدعم المعنوي والمادي مقابل فتح مراكز ثقافية إيرانية في العاصمة الخرطوم والولايات.
واستقطب النشاط بعض حفظة القرآن وتمدّد إلى أن وصل العرض الإيراني بتغيير المصحف المطبوع في جامعة أفريقيا العالمية وإجازة المصحف الإيراني بدلاً منه، لكن وقف في وجه هذه الخطوة أحد الدعاة بالسودان. ويوزّع مصحف أفريقيا على عدد من الدول الأفريقية ودور القرآن والمساجد هناك، فلو تمّت هذه الإجازة، ستكون إيران قد نجحت في نشر التشيّع في أفريقيا عبر بوابة السودان، وهي الأقصر مما تحاول فعله الآن في دول غرب أفريقيا وعبر محطات عدة.
لم يعكِّر صفو تلك العلاقة غير اشتباه إيران في علاقة الرئيس السابق عمر البشير مع حزب البعث العربي الاشتراكي وانتمائه السابق إليه، ثم بعد أن خذلت طهران النظام السوداني بعدم الإيفاء بوعدٍ كانت قد قطعته لدعمه في استخراج النفط بعد خروج شركة شيفرون الأميركية، تغيّرت بوصلة نظام الإنقاذ من ناحية إيران، وأغلقت المراكز في العاصمة والأقاليم، ويتردّد أنه لا يزال هناك عدد من “الحسينيات” في الأقاليم البعيدة تُدار بواسطة عدد من الطوائف والطرق الصوفية التي تتشارك معها في بعض الطقوس، مثل التبرّك بضرائح الأئمة وتقديس الشيوخ وغيرها.
بعد هذه القطيعة، استجلبت طهران من الذاكرة السياسية إنشاء أول مركز ثقافي إيراني عام 1988 في حكومة الصادق المهدي، وبعدها زيارة المهدي إلى إيران قبيل انقلاب 1989 وتجاوزه في تلك الرحلة دول الخليج. ثم أخذت تروّج لفكرة الإمامة والمهدي المنتظر عند حزب الأمة والتشابه معها في بعض جوانبها للإمامة عند الشيعة، باستحضار زعم الإمام محمد أحمد المهدي وخليفته عبد الله التعايشي بأنه كانت تمر بهما رؤى منامية من النبي محمد وهواتف تناديهما وترشدهما إلى كيفية الحكم الإسلامي الصحيح، وكذلك في بعض أدبيات الصادق المهدي ومؤلفاته “طريق الخلاص” و”المنجيات العشر” وغيرها.
لجوء الإسلاميين
تدرك إيران حقيقة التقاطع بين مصالحها الأيديولوجية والسياسية والاستراتيجية، وهي تخدم إلى حدٍّ كبير تفسير السلوك السياسي لجماعة (الإخوان المسلمين) تجاه الأطراف الخارجية وإمكانية تعاونها معهم سواء داخلياً أو إقليمياً أو خارجياً من دون شرط المشاركة في الهوية الأيديولوجية.
وينبع ذلك من دور إيران كراعٍ للإسلام السياسي الذي جاء في الإشارات الباكرة التي رافقت الثورة الإيرانية 1979، ونتيجة لإيمانها بالأيديولوجية الإسلامية، وما طوّرته عندها متجسّداً في فكرة القيادة الإقليمية من خلال الإسلام السياسي، ولذلك فهي ترى أن كل تحرك وِفق هذا المبدأ يعبّر عنهم بشكل من الأشكال، ويعيد تعريفهم إلى مفهوم تصدير الثورة ونشر أيديولوجيا الإسلام السياسي.
يمكن أن تكون مساعدة إيران لـ”الإخوان المسلمين” في قالب موازٍ لمفهوم “نصرة المستضعفين”، وهو مبدأ امتدّ من الداخل إلى نصرة الشيعة الاثني عشرية في الجوار الإقليمي ثم إلى المستضعفين في كل العالم، وذلك في إطار سياسي دولي. ولا يقتصر ذلك على المناطق التي فيها وجود شيعي فقط، إنما تشمل أيضاً الجماعات ذات التوجهات القريبة، إذ ظلت إيران تعتبر نفسها مسؤولة عن المسلمين في كل العالم. ويمكن أن تعمل طهران على احتواء الإخوان، لكن بالقدر الذي لا يؤدي إلى تقويتهم بشكل كامل، إذ ليس في صالحها أن يصبحوا جسماً مقابلاً ومنافساً لوجودها، مما يؤثر في مشروع الدولة الإيرانية التوسّعي.
يرى عدد من الإسلاميين أن إيران ستكون ملجأً مناسباً لهم، لكن تاريخها مع حلفائها يوضح أنها لا تحبّذ الاحتواء الكامل، وتكتفي بدعمهم في مواقعهم أو مناطق أخرى مثل تركيا التي لجأ إليها عدد منهم، وذلك كي تتمكّن من تحقيق أهدافها الخارجية، وعلى رأسها تصدير الثورة. ويمكن أن تعمل طهران على محورين لتحقيق هذه الأهداف، المحور الأول من خلال القوة الناعمة، سواء كانت اقتصادية أو ثقافية، والمحور الثاني الرعاية الموازية لمفهوم “المستضعفين”، الذي يركّز على الجانب الأيديولوجي باعتبارها مسؤولة عنهم.
تكتل الإسلام السياسي
هذا الاهتمام يثبت وجود جهود مبكرة واهتمام سابق ربط بين “الإخوان المسلمين” وإيران والاستفادة من بروز الانشقاقات في جسد الحركة الإسلامية في السودان إبان المفاصلة الشهيرة بين حسن الترابي ونظام البشير عام 1999، وما بين متقبّل له وقابل للذوبان فيه.
وهكذا ظلت طهران تسرّب أيديولوجيتها تارة بين الحركة الإسلامية وتارة أخرى بين الطوائف. ومن كانوا متحمسين لقيام دولة إسلامية ثورية على خطى إيران، لم يبقَ منهم تيار أيديولوجي واضح الميول إلى طهران، بل الواضح هو ميول فردية ووصولية سياسية غير منظمة وأسماء أبناء بعض الإسلاميين على آيات الله، لكن ذلك لا يمنع التكتل بين حركات الإسلام السياسي، وصولاً إلى الهدف الموحّد بين الكيانين