بشفافية
حيدر المكاشفي
ونشرب كدراً وطينا
اعتذار واجب..
(يلزمني في البدء قبل الدخول الى موضوعنا اليوم، الاعتذار للقارئ الكريم عن التداخل الذي حدث في نهاية عمود الأمس بوجود الفقرة الأخيرة التي لم يكن لها علاقة بالموضوع ولا يخالجنا شك في أن قارئنا الحصيف قد انتبه لهذا الخطأ)..
اذا كان الشاعر الجاهلي الفطحل عمرو بن كلثوم قال مفاخراً بعزة قومه ومكانتهم العالية ومقللاً من شأن خصومهم (ونشرب إن وردنا الماء صفواً ويشرب غيرنا كدراً وطينا)، ما يعني أن أصحاب المقام الرفيع لا يشربون الا الماء الصافي بينما يتركون لمن هم دونهم عزاً ومكانة الماء العكر (المطين)، فإن أهل بعض أحياء الخرطوم قد ازرت بهم واستحقرتهم هيئة المياه وجعلتهم يشربون الكدر والطين أو بالأحرى الطين المضاف اليه قليل من الماء، اذ تعاني بعض أحياء الخرطوم ومنها الحي الذي نسكنه ( امتداد ناصر) من عكارة كثيفة في المياه الراجح أن سببها هو النقص الواضح في عمليات تطهير المياه وتعقيمها وتنقيتها، ما أدى الى تغير طعمها ولونها ومذاقها حتى لم تعد صالحة للاستحمام والغسيل وربما الوضوء دعك من الشراب، وهذا ما يستدعي التحرك العاجل لفحص هذه المياه لمعرفة ما اذا كانت صالحة للاستخدام الآدمي أم لا، ومن عجب فإن أحياء أخرى لا تجد حتى هذا الماء الطيني اذ ظلت تعاني وما تزال من شح في المياه بل وانعدام تام رغم وفرة المياه التي تكفي سكان العاصمة بل وتفيض، وتزيد قطوعات الكهرباء لساعات متطاولة الطين بلة، ولكم أن تتخيلوا حالة التعاسة والبؤس الذي يعيشه الناس حين تتحالف عليهم قطوعات الكهرباء مع انقطاع المياه في هذا الجو الخانق، بينما تقف هيئة المياه عاجزة وحائرة ولا تملك إجابة محددة، فمع كل أزمة جديدة لها سبب ومبرر جديد، مرة بسبب الطمي وتعكر المياه في مواسم فيضان النيل، تردد مع الراحل مصطفى سيد أحمد (يفيض النيل نحيض نحنا، يظل حال البلد واقف تقع محنة)، ومرة بسبب انحسار النيل وتناقص مستوى مياهه مع ارتفاع نسبة التلوث وتصاعد احتمالية الاصابة بجملة من الأمراض، ومرة بسبب الشبكة المهترئة، ولم تستطع الهيئة على مر السنوات أن تتخلص من هذه المشاكل المتكررة برتابة، رغم ان الماء موجود وبوفرة، أجراه الله على هذه الأرض ولا يحتاج الأمر هنا سوى إلى الجهة التنفيذية والإدارية والفنية المؤهلة والكفوءة التي تجريه عبر المواسير بلا انقطاع أو (تكدير)، ولكن المحنة تقع عندما لا توجد مثل هذه الجهة، والأزمة تستفحل أيضاً عندما تكون خدمة حيوية كالماء الذي لا حياة بدونه لا تجد التمويل اللازم وتقبع في مؤخرة الاهتمامات، والكارثة تحل كذلك عندما يوسد أي أمر لغير صاحبه المؤهل المقتدر، وخلاصة الامر هي ان سوء إدارة المياه المتوفرة بكثرة في بلادنا هي التي جعلت حالنا كحال تلك العير التي قال فيها الشاعر (كالعير في البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول)..
الجريدة