جريدة بريطانية : السودان… أحلام الثورة وإكراهات الواقع!
الاماتونج وكالات
الماضي لم يكن مؤسساً على وعي عميق في أوساط الطبقة السياسية وإلا لما ظهرت انقلابات عسكرية ونظم شمولية
بين واقع السودان اليوم وواقعه بالأمس منذ الاستقلال، جرت مياه كثيرة تحت الجسر. وما تصوره النوستالجيا اليوم عبر استيهام البعض لماضٍ بعيد بناء على واقع ورثته الثورة عن نظام لم يترك شيئاً في واقع حياة السودانيين إلا دمره خلال ثلاثين عاماً، قد لا يعكس المسافة الكبيرة التي حدثت اليوم بين ماضي السودانيين وحاضرهم.
البعض يظن، أن ما يراه اليوم من تجريف كبير لحق بالحياة العامة للسودانيين على يد النظام السابق، وأفرز تشوهات حقيقية لاتزال حاضرة حتى اليوم؛ أنه يمكن للسودانيين استعادة ماضيهم عبر استيهامات حالمة ولا علاقة لها بالواقع!
فماض السودانيين “الزاهر”، أولاً، لم يكن ماضياً مؤسساً على وعي عميق بهوية السياسة في أوساط الطبقة السياسية، لسبب بسيط وهو أنه؛ إذا كان ماضي السودانيين (كان ماضياً مظاهره لا تعكس حقيقة مآلاته) يعكس بالفعل رؤية لإنتاج المعنى السياسي؛ لما كان هناك أي إمكانية لظهور انقلابات عسكرية ونظم شمولية ترتد بالسودانيين إلى حياة متخلفة يكون كل انقلاب فيها أكثر من سابقه تخلفاً وطول أمد. وإذا كان نموذج الهند هو النموذج الأقرب لإدراك الفرق بين تجربتها السياسية المضطردة النجاح والمتواصلة، وبين التجربة السودانية المتعثرة والفاشلة؛ فلأن ذلك يتصل بعدة تشابهات بين البلدين تجعل من وارد المقارنة بين الفشل والنجاح في التجربتين أمراً معقولاً؛ كالاستعمار الواحد “البريطاني” وكالاشتراك في تعدد الأديان والأعراق، واللغات، واتساع الجغرافيا السياسية لكل من البلدين.
ويمكن القول؛ كان لدى السودانيين وعي بتجربة غاندي العظيمة في الهند. ولعل ذلك يفسر اختيار اسم “مؤتمر الخريجين؛ أول كيان سياسي للمتعلمين في السودان تأسس في عام 1938م) من طرف السودانيين، هذا يعني أن الحنين إلى ذلك الماضي “الزاهر” لا يمكن استعادته، ليس لأنه مستحيل بطبيعة الحال، فحسب، بل حتى لو تحقق لنا ذلك الماضي اليوم لأفضت نتائجه إلى المصير ذاته.
لهذا، فإن مواجهة الإكراهات والمشكلات والاختلالات التي راكمها أسوأ نظام سياسي انقلابي مر على السودان، لا ينبغي أن تكون بنوستالجيا الماضي، لأن تلك النوستالجيا ستكون بمثابة المخدر الذي لا يغير شيئاً ويعطل المستقبل عن التغيير.
بكل تأكيد، إن ما يواجهنا اليوم في بنيات وهياكل الدولة السودانية ومؤسساتها المدينة والعسكرية من تجريف؛ هو جزء مما لنا يد فيه كشعب سوداني حدث ذلك الخراب أمام عينيه. وإذا كانت الثورة السودانية استطاعت أن تسقط رأس النظام فذلك بالطبع انتصار عظيم، لكن بمعزل عن مواجهة التحديات مع استعداد كبير لتفهم ما حدث من خراب؛ ستكون إمكانات عودة الخراب مرة أخرى مسألة وقت.
ليس هناك اليوم ماضٍ سياسي منذ استقلال السودان يمكن أن نستلهمه في المستقبل. قدرتنا على فك الارتباط بين نوستالجيا الماضي، والنظر بجدية إلى تحديات الحاضر؛ هي الرهان الذي يمكن التعويل عليه من أجل غدٍ مشرق.
طريق الاستعادة لا ينبغي أن يكون استعادة نحو ماضٍ متخيل، بل ينبغي أن يكون بالانطلاق من قواعد صلبة وتشاؤم فكري رصين يعول على أسوأ التقديرات في فشل مسار الثورة من أجل تجاوز كل العوائق بالعمل والجدية.
لهذا فإن التقدير الذي يقوم على افتراض أسوأ العوائق في سبيل الثورة هو الذي ينبغي أن يكون شعار المرحلة الانتقالية. فوفق هذا التقدير لا يمكن النظر إلى اختلال مؤسساتنا المدنية والعسكرية (التي تم تجريفها) بعيون الحالمين، بل بحواس المستيقظين وحوافز المنتبهين لأن من شأن تلك المشاعر أن تجعل سقفنا التشاؤمي عالياً للاستعداد لأسوأ تحديات ذلك السقف.
لهذا سيكون مهماً؛ عزل مشاعر الحالمين والمأخوذين بماض السودان الجميل وتفنيد أسطورة الزمن الجميل بحقائق الحاضر.
هذا يعني أن الصبر على حدود الحاضر والانطلاق من تلك الحدود في مسار ابتدائي نحو تلمس خطى المستقبل سيكون الأسلم. لأن طبيعة الإكراهات؛ طبيعة لا تحبها الشعوب وتحاول أن تهرب منها إلى الأمام، ذلك أن مسافة الشعار ليست هي مسافة الواقع، كما أن قوة الفكر وحقائق الانطلاق من المعرفة باستعداد التحدي ليست هي ذاتها عندما يتم إسقاطها على الواقع. لأن الفكر يسبق الواقع بطبيعة الحال، وقد تكون نظرياته في حاجة إلى تصحيح الواقع لها باستمرار أيضاً.
إن قوة المعرفة ليست هي معرفة القوة، وشتان بين الاثنتين. ففيما تعني الأولى؛ بصيرة في التماس الطريق بمعرفة قوية، تعني الأخيرة إدراكاً للقوة العارية التي لا تصمد بذاتها على خوض معركة.
بين أحلام الثورة وإكراهات الواقع، لابد من ضبط المسافة بميزان قوة المعرفة لا معرفة القوة، إلى جانب بذل استعدادات كثيرة من بينها: التفاؤل والأمل وتقدير المشكلات، لا تهويلها. التحديات والإكراهات ستكون قوية في مسار هذه الثورة بكل تأكيد لأن الاختلالات التي أصبح عليها وضع السودان عشية الثورة لن تختفي بإسقاط رأس النظام ما يعني أن الاصطدام مع أوضاع وحالات وموازين قوى سيكون حالة طبيعية، فتلك الحال هي بذاتها شرط وجود الثورة، وبغيرها لن تكون الثورة.