)1(
طبيعيٌّ أن تعلي الحكومة من شأن السلام وتعطيه الأولوية، لأنه بدون سلام لن تكون هناك ديمقراطية ولا مدنية ولا تنمية.. كما أنّه لا يُمكن أن تغفل الحكومة الواجبات الأخرى المنوطة بها من إصلاح ما خربه النظام السابق، وبناء الدولة، ومُحاربة الضنك الذي يُقابل المُواطن السوداني في أوجه الحياة كَافّة، فالأمور لا بُدّ من أن تسير بالتوازي على طريقة تقسيم الأدوار.
ثُمّ ثانياً، السلام يتوقّف على إرادتين، إرادة الحكومة، وإرادة الجهة المُقابلة الرافعة للسلاح، فأيِّ تعنُّت من هذه الجهة ولأيِّ سَبَبٍ من الأسباب سوف يجعل السَّلام حُلُماً بعيد المنال، ولا سيما أنّ هذه الجهة غير مُتوحِّدة في رؤيتها للسلام خَاصّةً فيما يتعلّق بالمطالب، فبعضها سقفه مرتفعٌ جداً )الحلو(، وبعضها سقفه أقل ارتفاعاً )الجبهة الثورية(، وأخرى لا تعرف لها سقفاً )عبد الواحد(.. ولا أدري ما هي القراءة التي اعتمدت عليها الحكومة في تحديد القيد الزمني بستة أشهر، ثم ثانياً ما هي خُطة الحكومة البديلة في حالة انقضاء الأشهر الستة ولم يَتَحَقّق السَّلام لا سَمح الله..؟
)2(
والحَال هكذا، يصبح مقر التفاوُض مهماً جداً، لأنه في تقديري سوف يلعب الدور الحاسم في سير عملية التفاوُض ورسم مآلاتها.. قل لي كيف؟ قبل الإجابة دعونا نرى المقرات المُقترحة للتفاوُض.. فكما هو مَعلومٌ أنّ اللقاء بين عضوية المجلس السيادي والحركة الشعبية والجبهة الثورية في جوبا في الشهر المنصرم، كان قد حدّد جوبا مقراً للتفاوُض والسابع عشر من أكتوبر الجاري موعد البدء.. وقد سعدت جوبا لهذا الأمر، بدأت تقوم بدور الوسيط من ساعتها، ولكن في اجتماع الجبهة الثورية بمصر في اليومين الماضيين، برزت أبوظبي كمقرٍ للتفاوُض.. فلا أدري ما هو السبب الذي طرح أبوظبي في وجود الاتّفاق على جوبا ولماذا من القاهرة بالذات؟ ومن يدري ربما تظهر عَاصمةٌ ثَالثةٌ، ففنادق أديس أبابا أصبحت معروفة لعُمُوم أهل السودان من كثرة لقاءات الفُرقاء السُّودانيين فيها منذ اتفاقية أديس أبابا عام 1972 إلى اجتماعات الحُرية والتّغيير فيها قبل عدة أسابيع.
)3(
جوبا عاصمة لدولة جارة وشقيقة، وكانت جوبا ذات يوم المدينة السياسية الثانية في السودان، وأبوظبي عاصمة دولة شقيقة ظلّت تدعم السودان من زَمَنٍ، ولا شَكّ أنّ التفاوُض فيها سوف يُوفِّر للوفود المُفاوضة أجواءً باذخةً لن تُوفِّرها جوبا، ولكن مع ذلك.. وفي تقديرنا الخاص، يجب أن تَكون الخُرطوم هي الخيار الوحيد للمُفاوضات بين السودانيين، فخرطوم الثورة أغلقت الخيارات أمام أيِّ خيارٍ آخر، إلا سَيكون ذلك عَدَم اعترافٍ بِعَظمة الثّورة ومُشَارَكَة الجَميع فيها.. ثُمّ ثانياً التّفاوُض قد يستغرق زمناً أكثر من الأشهر الستة، فطالما أنّ الجميع موجودون في بلادهم يُمكن أن تكون )الفورة ألف( مع زيرو تكلفة.. ثالثاً التفاوُض والوُصول لاتّفاقٍ في الخرطوم سوف يُعطي البلاد صُورَةً باهيةً، باعتبار أنّها أرض الثورة وأرض السَّلام.. رابعاً والأهم التفاوُض في الخرطوم سوف يُبرهن مقدرة السودانيين على إدارة شؤونهم ويغلق السبيل أمام الأجندات الدولية مجهولة العواقب، وهكذا يُمكننا أن نُعدِّد حتى الصباح في ميزات الخرطوم.. فعلى الحكومة أن تطرح خيار الخرطوم اليوم قبل الغد وتصر عليه.