(1)
نُعيد قصة الدكتور الجزولي دفع الله لأنّ المُناسبة اقتضتها، إذ حَكَى أنّه بعد انتفاضة أبريل 1985 تقرّر أن يكون رئيس الوزراء للفترة الانتقالية من التجمُّع النقابي وكان هو رئيس نقابة الأطباء التي كَانَ لها دَورٌ كَبيرٌ في الانتفاضة، فعرض المنصب على عَدَدٍ من كِبار النقابيين من ضمنهم الراحل المُقيم الدكتور عدلان الحاردلو فرفضوا، فكان الجزولي يقول في نفسه, المجنون دا منو البيقبل بالمنصب دا في مثل تلك الأحوال! ولكن أخيراً وقع الأمر فوق رأسه وأدار مع المجلس العسكري تلك الفترة باقتدارٍ فأوصلوا البلاد إلى حكومةٍ ديمقراطيةٍ مُنتخبة انتخابات نزيهة لا فيها شَق ولا طَق، فإن تعثّرت التّجربة الديمقراطية بعد ذلك و(اندفقت فيها الدبابات)، فهي ليست مَسؤوليه الحكومة الانتقالية، إنّما مسؤولية الأحزاب حاكمةً كَانت أم مُعارضةً وهذه قصة أُخرى.
(2)
أمّا المُناسبة فهي أنه قد تقرّر أن يُؤدي الدكتور عبد الله حمدوك القَسَم عند الساعة التاسعة مساء اليوم الأربعاء (يوم كتابة هذا المقال) ليصبح رئيس الوزراء لثالث فترةٍ انتقاليّةٍ يشهدها السودان بعد استقلاله، وبمعايير الجزولي يكون حمدوك أكثر جُنُوناً لأنّه استلم التّكليف في ظَرفٍ أسوأ وأضل بكثيرٍ من الظرف الذي استلم فيه الجزولي رئاسة الوزراء، فالبلاد في العُقُود الثلاثة الأخيرة تَرَاجَعَت إلى الخلف بمُتواليةٍ هندسيةٍ، فَيكفي أزمة الضروريات من خُبزٍ ووقودٍ وأدويةٍ، لا بَل وسُيُولة.. ثُمّ أنظر إلى الدَّين الخارجي وخدمته وقيمة الجنيه السُّوداني الذي أصبح أخَفّ مِن وزن الريشة.. هذا بالإضَافَة للعُزلة الخَارجيّة والتشظي الداخلي والنقص الحَاد في الخدمات الضّرورية من تَعليم وصحةٍ.. فما أن تَرفع طُوبة في سُودان اليوم إلا وتجد تحتها مُصيبة..!
(3)
لا بُدّ من الإشادة بشجاعة وإقدام الدكتور حمدوك الذي قَبِلَ التّكليف، وهو أكثر العَالمين بأحوال السُّودان وهذا ينم عن ثقةٍ في النفس، وهذه أولى عتبات النجاح إن شاء الله ويُضَاف لهذا الإجماع والارتياح الذي قَابَلَ به الشعب السُّوداني اختيار حمدوك وهذا رَاجِعٌ لرفضه مَنصب وزير المَاليّة في النّظام السّابق، ذلك الرّفض الذي عرف الشعب السُّوداني به.. والأهم من كل هذا موارد السُّودان الضخمة التي تحتاج للعُقُول لاستغلالها.. فعناصر القُوة المُتوفِّرة كبيرةٌ جداً.
من المُؤكّد أنّ حمدوك ليس له عصا سحرية لتغيير أحوال السُّودان، فالسُّودان مُحتاجٌ لجُهُودِ كل أبنائه، فإذا لم تتضافر تلك الجُهُود فلن تكون هُناك (نُصرةٌ)، ولكن الحُكومة وبالتالي الحاكم القدوة أمرٌ مَطلوبٌ، فكل الذي نَعرفه عن حمدوك يقول بأنّه سيكون رئيس حكومة قُدوة وإدراك وعزيمة.. وبما أنّه ليس في الإمكان أسوأ مِمّا هو كَائنٌ الآن، فأيِّ عملية إصلاحية تقوم بها الحكومة الجديدة ستكون مُقدّرة، فإن لم تُحَقِّق التّقدُّم فلتُوقف التدهور، فإن لم تستطع إيقاف التدهور، فلتبطئ مُعدّلاته.. (أها قَصّرنَا مَعَاها؟).. ولكن أملنا في الانطلاقة كَبيرٌ جداً.. فَعَلَى بَرَكَة الله