*كان يمتطي سيارة بوكس قديمة تعرفها من صوتها الخشن الأجش ودخانها اللاوي، يقودها ضابط شرطة برتبة رائد نحيف الجسد على وجهه ندوب وعلى خديه أثر جروح قديمة على جبهته علامات الصلاة والصلاح والتقوى يحمل حقيبة تعرف في ذلك الزمان بـ”تمكنا” وكلما تنظر إليه يتسلل خيط رفيع ليجمع بينه وشخصية أخرى بذات السمت، ومع اختلاف التفاصيل، إنه الرائد شرطة سليمان صندل حقار، والشخصية الأخرى التي يقترب منها الشيخ والعم شوقار رئيس اللجان الشعبية في أم بدة
كان سليمان صندل شخصية معتدة جداً بنفسها، يمقت الظلم وينظر لمشروع الحركة الإسلامية بأنه قد دخل دائرة الظلام بسلوك بعض القيادات.
يكتب سليمان صندل مقالاته الناقدة للنظام ويوقعها باسمه مقروناً بصفته رائد شرطة يأتي لصحيفة ألوان بعد الرابعة مساءً ويشرب كوب شاي الأخت نجاة التي تطعمنا وتسقينا، ويقول سليمان صندل ضاحكاً عارفكم بتخافوا من الجماعة الكبار، لكن أحسن ليكم أقيفوا مع الناس العاديين بدلاً من هؤلاء الفاسدين يقولها بثقة حتى أتحسس من حولي من الناس.
كتب سليمان صندل يوماً مقالاً شهيرًا جداً انهال نقداً وتقريعاً لعلي عثمان محمد طه، وكان شيخ علي حينذاك شخصية يمثل المساس بها مساساً بالثورة الظافرة، وتطاولاً على الشيوخ (وتماهياً مع الطوابير).
كتب سليمان صندل مقاله ونشرته في الصفحة الثالثة بصحيفة ألوان، وفي اليوم الثاني طلبني الأستاذ حسين خوجلي وبشجاعته وحسن تقديره لم يسألني عن المقال في بادئ الأمر حتي فرغ من وكتابة عناوين التحقيقات المطلوب إنجازها والحوارات المنتظرة في الأسبوع القادم ثم أمسك بألوان الحق والخير والجمال التي ساهمت في التنوير، وفتح نوافذ النقد لتجربة الإنقاذ، ودفعت ثمن مواقفها تعطيلاً ومصادرة وسجناً لحسين.
قال ضاحكاً: مثل هذه المقالات الناقدة لشخوص الإنقاذ وسياساتها تقوي التجربة ولا تنتقص منها كما يظن بعض الناس.
وأضاف حدث سليمان صندل بأن يكتب اسمه مجرداً من صفته كضابط شرطة مثلما يفعل مولانا زمراوي.
(٢)
خرجت من مكتب حسين خوجلي بالطابق الثالث ببرج الفيحاء الفخيم وبالصدفة التقيت بالأخ أحمد الشين الوالي، وهو من جهة والدتي بمثابة خالي وتنتمي والدتي من جهة الأم للرواوقة دار جامع وأحمد الشين الرواوقة أولاد المؤمن، وعمه سند الشين هو أمير القبيلة والتي تقطن مناطق الفنقلو وبجعاية ورميلي، بينما يقطن الرواوقة دار جامع مناطق الكويك وكيقا وتيسي عبد السلام وقردود هاشم وجلب، وأمير الرواوقه دار جامع هو الصحافي محمد أبوزيد، وهو أمير القبيلة الوحيد الذي ينتمي لهذه المهنة النبيلة، كان أحمد الشين قريباً من الراحل د. حسن الترابي، ومن النافذين جداً في الأجهزة الخاصة بالتنظيم الإسلامي، سألني عن مقال سليمان صندل بطريقة مباشرة من وراء هذا المقال، وأضاف: هل جاء سليمان صندل بنفسه أم بعثه عن طريق شخص آخر؟
وهل حسين خوجلي قرأ المقال قبل نشر، لم أجب على أسئلة أحمد الشين، ولكن قلت حسين خوجلي قانوناً يُسأل عن كل ما ينشر في ألوان، ولكنه يقرأ المقالات مثل سائر القراء، حسين خوجلي له ثقة مطلقة في الذين من دونه وعندما (تقع كبه)
كان يدق صدره، ويتحمل عنا أخطاءنا وما أكثرها وخلال خمسة وثلاثين عاماً عاشرت رؤساء تحرير كثر لم أجد أشجع من أبو ملاذ إلا حسين خوجلي.
وأثار مقال سليمان صندل ضجة في السودان، ولكنه لم يتعرض لمكروه مباشرة، ولكن صدر بعد ذلك قرار بنقله لمنطقة نائية على ما أعتقد سودري بشمال كردفان، وانقطعت صلته بالكتابة، ولم تنقطع علاقتي به حتى قطع المسافة ما بين الخرطوم ووادي هور وانضم لحركة العدل والمساواة، وظل وفياً لفكرته والمبادئ التي آمن بها حتى دخل مع قوات خليل أم درمان عبر عملية الذراع الطويلة، وعاد مرة أخرى منافحاً عن فكرته ومشروعه الذي دفعه لترك الوظيفة والذهاب للغابة والصحراء.
حركة العدل والمساواة تساقطت منها أوراق عديدة فقدت بعض أعمدتها بسبب طول النضال ووعورة الدروب وتعثر التسويات ورهق البعض، وضعف آخرين أمام مغريات السلطة والمال والوظائف والصراعات الداخلية، وشكّل مقتل مؤسس الحركة د. خليل إبراهيم صدمة كبيرة وضربة لم تفق منها الحركة لفترة طويلة، لما يمثله خليل من ثقل سياسي ورمزية كبيرة جداً، وحتى اللحظة لم تفصح حركة العدل والمساواة عن كيف قُتل خليل، ومن قَتل خليل؟ أما لماذا قُتل خليل فتلك قصة أخرى لكن المهم قتل خليل.
(٣)
من الكتب النادرة التي حُرم منها القارئ السوداني كتاب للدكتور عبد الله عثمان عن حياة الراحل خليل إبراهيم من ميلاده ببادية الزغاوة بشمال دارفور وحتى عملية الذراع الطويلة وما ترتب على تلك العملية التي وصفها البعض بالمغامرة غير محسوبة النتائج ووصفها البعض بأنها اختراق غير مسبوق لجدار الأمن والدفاع للإنقاذ، ولكن العملية لم تستثمرها حركة العدل والمساواة جيداً، وعندما سألت قناة الجزيرة قائد العملية عن أهدافها حتى بعد فشلها في إسقاط النظام، قال إن الهدف منها إزاحة البشير عن الحكم بقوة السلاح، ولو قال خليل حينها إنها تهدف فقط لإرغام النظام على التفاوض وتقديم الحل السلمي على العسكري لتبدلت أشياء وتغيّرت الخارطة السياسية، ولكن التقديرات السياسية في بعض الأحيان تصبح مدخلاً للهزيمة.
نذكر هنا ما حدث في الدلنج بجنوب كردفان في تسعينات القرن الماضي والحركة الشعبية برئاسة يوسف كوة مكي حينذاك تسيطر على مناطق الريف الجنوبي لمحلية كادقلي من طروجي وحتى الريكة والتيس، فاجتمع في مدينة الدلنج بعض أنصار الحركة الشعبية من ما يعرف لدى أجهزة الأمن بالطابور الخامس، وتم التداول في اجتماع بحي الرديف عما ينبغي القيام به لإسناد أولادنا في الميدان ــ على حد تعبيرهم ــ وجاء اقتراح بأن يتم الاستيلاء على مدينة الدلنج وتحريرها، فسأل أحد العقلاء وماذا بعد احتلال المدينة والحكومة تملك طائرات ودبابات وتستطيع مهاجمة الدلنج.
تطوع شاب متحمس نمشي وين كيف ما نمشي الأبيض ونحتلها، فقال الرجل العاقل في الطريق إلى الأبيض سنعبر أراضي شاسعة وقبائل عديدة من الحوازمة والبديرية، ولن يسمح لنا بدخول الأبيض، وطائرات الحكومة ستقصفنا بالقنابل وتقضي علينا.
وتراجع الاجتماع عن الأفكار الثورية وارتضى الجميع الإسناد المعنوي فقط لقوات الحركة الشعبية وهي تقاتل في الريف الجنوبي من محلية كادقلي. وما بين الحلم الثوري والواقع بكل تفاصيله مسافات بعيدة، ولكل ثوري قصة طويلة وتفاصيل دقيقة عن الأرض والميدان والمعارك، وليت أمثال الأخ سليمان صندل يكتبون يومياتهم في وادي هور والوخايم ودونكي البعاشيم ومعارك فوراوية وعشيراية وخزان جديد والرفاق الذين مضوا للآخرة والآمال والوصايا والمعارك والدماء وحياة الصحراء والغابة، ولكن السودانيين لا يكتبوب، ولكنهم يقرأون..
وكل جمعة والجميع بخير، وعيد سعيد.