رئيس لجنة التحقيق في مجزرة فض الاعتصام أمام القيادة العامة للجيش، مولانا فتح الرحمن سعيد، عقد مؤتمراً صحفياً سرد فيه خلاصات ما توصلوا إليه في التحقيق الذي انتظره الشعب السوداني طويلاً ليكشف لهم حقيقة ما حدث صباح اليوم الأخير في رمضان، 3 يونيو 2019..
يبدو غريباً للغاية أن يصبح التقرير نفسه محل سؤال يضيف إلى قائمة الأسئلة التي ظلت مطروحة منذ يوم المجزرة.. لماذا تنشر النيابة العامة مثل هذا التقرير في مثل هذا التوقيت والظرف وهي تعلم علم اليقين أن مردوده الشعبي مزيداً من توسيع الفجوة والجفوة مع مؤسسات العدالة في السودان؟
التقرير مدهش في تخطيه لوقائع شاخصة كالشمس، مثلاً تركيزه على أن العملية كلها كانت تختص بمنطقة “كولومبيا” ويتجاهل أنها شملت حوالى 15 ساحة اعتصام في مدن السودان الأخرى، تبعد من منطقة “كولومبيا” مئات بل ربما بعضها آلاف الكيلومترات.. كيف تزامنت العملية في كل هذه الساحات إن كان مقصوداً بها “كولومبيا” وحدها. ولعلم القراء من خارج السودان فإن “كولومبيا” هذه منطقة صغيرة للغاية تعادل مساحة ملعب كرة السلة أو تزيد قليلاً تقع أسفل “كبري النيل الأزرق”..
ثم وهو الأمر المدهش حقاً؛ لم يفسر التقرير عدد القوات التي شاركت في العملية، حتى بافتراض أنها كانت معنية بمنطقة “كولومبيا” فهل يعقل أن يتدفق الآلاف من الجنود والضباط لمختلف أفرع القوات النظامية لمواجهة قاطني “كولومبيا” الذين قد لا يزيد عددهم عن بضع عشرات؟ وأين الشرطة؟ لماذا لم تترك هذه العملية المحدودة الصغيرة للشرطة هي قادرة تماماً، بل يكفي قسم شرطة واحد لأدائها بمنتهى المهنية..
ولكن المحير فعلاً، حكاية الملثمين الذين صعدوا في هيكل المبنى تحت التشييد في ساحة الاعتصام – حسب التقرير- وحصدوا أرواح الضحايا في عملية استمرت بضع ساعات ثم نزلوا وخرجوا سالمين غانمين في مكان احتشدت فيه عدة آلاف من الجنود من كل أفرع القوات النظامية.. هذا سحر..
في تقديري هذا التقرير أضر ضرراً بليغاً بمؤسسات العدالة في السودان وبالتحديد ديوان النائب العام الذي فصل من وزارة العدل واستصدر له قانون خاص ليحظى باستقلال وحياد وصدقية كاملة في مهامه لضمان أرقى مراتب العدالة..
في لقاء الفريق أول عبد الفتاح البرهان برؤساء التحرير قبل عدة أسابيع قال إنهم أقالوا النائب العام لتردده في إنفاذ العدالة ومحاسبة المتورطين في قضايا الفساد، فهل لا زال الوضع على حاله؟ هل لا تزال العدالة محكومة بمقاس من تطاله؟
ليت النائب العام ما نشر تقريره.. وترك اللجنة المستقلة التي تضمنها الإعلان السياسي لتتولى المهمة..