“الدراما هي الحياة نفسها، لكن بعد إزالة الأحداث المُمِلّة”.. ألفريد هتشكوك..!
السينما والدراما الأمريكية قدّمت – ولا تزال – عَشَرَات الأفلام والمُسلسلات التي تُصوِّر ما يَدُور خَلف الأبواب المُغلقة في “البيت الأبيض” و”الكونغرس” وبين أروقة “المَنظومة الحِزبية” في أقوى دولة في العالمٍ. مسلسل “بيت الأوراق” مثلاً، يستعرض رحلة رئيس مجلس الشيوخ نحو الرئاسة، وما يَرتكبه في سبيل ذلك من جرائم ودسائس ومُؤامرات..!
وهنالك مسلسل “الناجي المُعيَّن” الذي يقدِّم حكاية أحد الوزراء الذي نَجَا من حادثة تفجير راح ضحيتها كل أعضاء الحكومة، فأصبح وفقاً لأحكام الدستور رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية. وما يَتَعَرّض له من تحدياتٍ ومُؤامراتٍ ومُحاولات اغتيال لعرقلة نُهُوضه بالبلاد، بعد كارثة الموت الجماعي تلك …إلخ.. تلك الأعمال الدرامية التي مَهّدَ أحدها يوماً لفكرة وُصُول أول مُرشّح من أصل أفريقي لرئاسة البلاد. قدمه “ويل سميث” في الدراما وحَقّقه “أوباما” في الواقع المعيش..!
هذا العام قدّمت السينما الأمريكية – أيضاً – فيلم “فايس” أو النائب، الذي تدور أحداثه حول الدور الخطير الذي لعبه “ديك تشيني” نائب الرئيس الأمريكي الأسبق “جورج بوش الابن” بعد اعادة صياغة هوية منصب النائب من اعتباره منصباً شرفياً إلى كونه مُحرِّك الدمية البارع الذي تَتَجَسّد آراؤه في قرارات الرئيس..!
وهكذا!، بفضل إذعان “جورج بوش الابن” لكل ما يُريده “ديك تشيني” انبثقت حياكة اتّهام “صدام حسين” بحيازة الأسلحة النووية من العدم، وتمّ اختراع قصة العلاقة بين “بن لادن” في أفغانستان و”أبي مصعب الزرقاوي” في العراق. فكانت النتيجة هي الغزو الأمريكي للعراق الذي انتهى بمقتل نحو أربعة آلاف وخمسمائة وخمسين جندياً أمريكياً، وأكثر من ستمائة ألف مواطن عراقي، فضلاً عن كون ذلك الاتهام المُلفق السّبب المُباشر في اجتهاد “الزرقاوي” بتجسيد الرواية، بعد أن حوّلته الرواية المُختلقة إلى “نجم إرهابي”، فكان مصير ما يربو على المائة وخمسين مدنياً في سوريا والعراق هو القتل والتّشريد على أيدي جَمَاعاتٍ إرهابية تَخَلّقت وتفاقمت كنتيجةٍ راجحةٍ لتداعيات تفعيل قانون “مُكافحة الإرهاب” الذي ابتدعه “ديك تشيني”، والذي منح الإدارة الأمريكية سُلطة مُطلقة في الاعتقال والاستجواب والسجن لمُجرّد الاشتباه. والذي لا يزال سارياً..!
في لقاء تلفزيوني بعد أن تَرَكَ منصبه، سألت المذيعة نائب الرئيس الأسبق “ديك تشيني” عن رأيه بِشَأن مَا يَعتقده أكثر من ثُلثي الشعب الأمريكي “أنّ حرب العراق لم تكن تستحق التدخل الأمريكي، وأن لا قيمة مكتسبة منها مقابل مقتل آلاف الأمريكيين ومئات الآلاف من العراقيين”. فأجابها دون أن يَطرَف له جَفَنٌ “من أراد أن يكون محبوباً عليه أن يكون نجماً سينمائياً، لكن المنصب السياسي شأنٌ آخر. الأمريكيون اختاروني وفوّضوني، وأنا من واقع مَنصبي، قُمت بواجبي كما أراه أنَا، وليس كما يَرونه هُـــــــــــــــــــــمْ”..!
الشاهد من تلك الحكايات السِّياسيَّة أنّ الشرعية الدّستورية شأنٌ، وأنّ العَدَالة بمعناها الأخلاقي شَأنٌ آخر، وأنّ حسابات النّاخب بشأن مرشحه الانتخابي شَئٌ، وأنّ النتائج المُترتِّبة على تَحَوُّل الوعود الانتخابية إلى قرارات – محكومة بطبيعة المنصب وظروف تصريف شؤون الحكم – شَئٌ آخر..!
وبإسقاط مثل هذه الأمثلة السياسية على مُستقبل ما بعد الثورة في بلادنا، يُمكننا – أيضاً – أن نقول بأنّ الرومانسية الثورية شأنٌ، وأنّ الأهلية التنفيذية شأنٌ آخر. وأنّ الأهداف الثورية شَئٌ، وأنّ المَآلات الدستورية شَئٌ آخر..!
باتّفاق الطَرفين – بعد طُول خلافٍ – حَقّقَت هذه الثورة مُعظم أهدافها، وبتحديد مَوعد تشكيل حكومة مدنية وصلت مُعظم أدواتها إلى ُمنتهاها. إلى حَيث لا يُمكن تشكيل الدائرة بقواعد المُربّع، وإلى حيث لا يُمكن شَرح المُنحنى بمُعطيات المُستقيم. فالدور التاريخي للثورات هو أن “تهدم” منظومات الحكم الجائر بمعاول الشرعية الثورية. أمّا “البناء والتشكيل” فهو شأنٌ دستوريٌّ، يتطلّب إذعاناً – غير مشروطٍ – لقانون المصلحة العامة.. فهل – يا تُرى – من مُذَّكِر..؟!