برحيل كأنه “مواجد أهل الوصل”، استقر جسد علي محمود حسنين في مثواه الأخير بمقابر أحمد شرفي بأم درمان، بعد أن شيعه بالصلوات والدعاء آلاف الثوار الذين يرابطون حول قيادة الجيش السوداني من أجل إنجاز حلم الدولة المدنية، ذاك الحلم الذي نذر الفقيد حياته من أجله.
ثمانون عاماً قضاها حسنين بين المنافي والسجون، وبين ساحات المحاكم ومقاعد الدرس ومنابر الوعي، ليختم أيامه في الدنيا وقد أجاب الله أمنيته الغالية، بألا يموت إلا بعد أن يرى سقوط نظام الإنقاذ.
على محمود حسنين المحامي وقطب الحزب الاتحادي الشهير، خرج من وطنه السودان بعد تعرضه للاعتقال وتهديده بالقتل من النظام السابق لتأييده اتهام المحكمة الجنائية الدولية لعمر البشير باقتراف جرائم حرب وإبادة جماعية في دارفور، كما جاء في بيان للجبهة الوطنية العريضة التي قام بتأسيسها.
عاد حسنين للسودان في 16 أبريل/نيسان الماضي، لتصعد روحه إلى بارئها في 24 مايو/أيار الجاري، بعد أربعينية الإطاحة بالبشير، وبعد عشر سنوات قضاها متنقلاً بين عدة بلدان.
الجبهة الوطنية
غداة تأسيسه الجبهة الوطنية العريضة، صرح بأنه لا يمكن أن يكون هدفه في هذه السن جمع المال أو اشتهاء السلطة، وأن بعض السياسيين ينتسبون للمعارضة، لكن “شغلهم” مع نظام الإنقاذ؛ في إشارة إلى خلافه مع بعض قادة العمل الحزبي؛ مما دفعه للانخراط في كيانات سياسية عديدة يطمئن للعمل داخلها لمقاومة الشمولية.
تسنم الرجل مناصب عديدة في الحركة الاتحادية، واستقر أخيراً في كيان الجبهة العريضة التي أسسها في لندن عام 2010، وهي ليست حزباً بل -حسب رأيه- تيار سياسي قومي رافض للدكتاتورية.
وحدّث حسنين مستمعيه في ورشة حول سلام السودان أقامها معهد السلام المستدام -ومقره هيوستن- عن أنهم فصيل معارض يرفع راية إسقاط النظام ويرفض أي حوار معه، كما يرفض أي تمويل أجنبي لنشاطهم.
ويردد الرجل مقالة الشريف حسين الهندي من أنهم “يموتون ولا يأكلون قضاياهم الوطنية”؛ في إشارة إلى علاقته مع ذلك المناضل الشرس لنظام جعفر النميري، وقد كان حسنين والحاج مضوي خلصاء الشريف في العمل المعارض بالداخل.
موقف مبدئي
رفضه أي حوار مع نظام الإنقاذ كان موقفاً مبدئياً تبنته قوى الثورة وصاغه المتظاهرون في شعار “تسقط بس”، وهو الشعار الذي أصبح عنواناً لسقوط نظام البشير.
قبل أيام أوصى الحاضرين في مقر الاعتصام قائلا” إن أسوأ الثورات هي التي تقدم التضحيات ثم تنتكس ولا تكمل المشوار.
وأصدر قبل ثلاثة أيام من رحيله بياناً جاء فيه “إن أي تماطل في اختيار البديل المدني يعزز سُلطان قوى الإنقاذ المندحرة ويمكِّن الفاسدين من الهروب وإخفاء الأموال المنهوبة”.
وكانت من بين تصريحاته الأخيرة للجزيرة نت حول تلكؤ المجلس العسكري في تسليم السلطة للمدنيين “بأنه لا خيار لثوار الميدان إلا المثابرة والبقاء في الشارع لتصفية حكم الإنقاذ بوسائلهم السلمية المجربة”.
موجة حزن
عمت ميدان الاعتصام أمام القيادة العامة للجيش موجة من الحزن برحيل المناضل علي محمود حسنين.
ونعته كافة القوى السياسية، وعبر الكثير من الناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي عن فقدهم الكبير بغياب شيخ المناضلين.
السماني الوسيلة، القيادي الاتحادي وتلميذ حسنين في العمل العام، يقول بأسى إن الرجل ظل في مقدمة المدافعين عن الحرية، وعلماً من أعلام القانون، وكان قابضاً على جمر القضية داخل وخارج الوطن، حتى أكرمه الله بحسن الخاتمة في هذا الشهر الفضيل.
روحه الثائرة -كما يقول الناشط المدني عماد آدم- “أعادت المعتصمين إلى بديهية المطالبة بمحاسبة مخترقي الدستور، ومن قوضوا النظام الديمقراطي، قبل الشروع في مساءلة أي من رموز الإنقاذ في جرائم أخرى. ويشير آدم إلى أن حسنين بتقديمه مع آخرين دعوى للنائب العام لمحاكمة المشاركين في انقلاب الثلاثين من يونيو/حزيران 1989، استعدل المشهد وأعاد ترتيب أولويات الثورة.
مقاومة الدكتاتوريات
ويصف الدكتور جلال زيادة أستاذ الإعلام بالجامعات السودانية الفقيد بأنه رجل وطني حتى النخاع، قاوم كل الدكتاتوريات، ولم يغادر الوطن ألا مضطراً في عهد نظام الإنقاذ، وأنه رجل عملي ويقف وراء مشاريع كتابة الكثير من القوانين، وقد كان مكتبه مفتوحاً للدفاع عن المناضلين، والمظلومين.
وممن عملوا معه داخل تكوينات الجبهة الوطنية الكاتب الصحفي جهاد الفكي، الذي يشهد بأن حسنين باع الكثير من أملاكه لتمويل نشاط الجبهة الوطنية العريضة، وأنه كان عندما يلتقي مسؤولاً أجنبياً يتحدث معه بأن أهل السودان قادرون بقواهم الذاتية على إسقاط النظام، وأن هدف الجبهة من التواصل مع الخارج هو إحكام طوق العزلة على النظام وإدانته في المحافل الدولية، والتعاون مع القوى الخيرة في العالم لأجل تقديم مقترفي الجرائم ضد الإنسانية للمحاكمة.
ولد علي محمود حسنين في 19 يوليو/تموز 1938 بأرقو (شمالي السودان)، ونشأ في أسرة صوفية تنتمي للطريقة الإدريسية، وبدأ حياته السياسية ناشطاً في التيار الإسلامي بجامعة الخرطوم، وترأس اتحاد الطلاب عن “الاتجاه الإسلامي”، ونال الماجستير من جامعة نورث ويسترن في شيكاغو.
وعمل بالسلك القضائي وبالمحاماة منذ بداية الستينيات من القرن الماضي، وأُبعد عن القضاء عام 1962 لتوقيفه مسؤولين كبار في حكم الفريق إبراهيم عبود.
اعتقالات متكررة
اعتقل ثلاث مرات خلال الحكم العسكري الأول، وأودع السجن سبع سنوات في أوقات متفرقة في عهد جعفر نميري، ولأكثر من ثلاث سنوات -أغلبها حبس انفرادي- خلال حكم الإنقاذ.
قاد النشاط الداخلي للجبهة الوطنية المعارضة لنظام نميري، التي تسللت عناصرها العسكرية للخرطوم عام 1976، حيث اعتقل وحكم عليه بالإعدام ثم خفف الحكم للسجن، وأطلق سراحه بعد المصالحة الوطنية 1977.
انتخب عضواً للبرلمان عن دائرة دنقلا عام 1968 وحتى انقلاب مايو/أيار 1969، ودخل برلمان النظام السابق عن التجمع الوطني الديمقراطي بعد اتفاق القاهرة، واستقال من البرلمان حيث لم يحتمل حزب المؤتمر الوطني الحاكم سابقاً نقده لفساد مسؤولين بالنظام السابق.
شكّل حضوراً كثيفاً وفاعلاً في الوسائط الإعلامية والملتقيات السودانية، وشارك في إعداد الكثير من مشروعات القوانين لخدمة العمل المعارض وقوانين محاسبة المفسدين والتأسيس للفترة الانتقالية، وقوانين أخرى تجرم استغلال الدين في السياسة.
في الأسبوع الأخير من حياته الذاخرة بالعطاء قدّم عريضة مع آخرين لمحاكمة منفذي انقلاب الثلاثين من يونيو/حزيران 1989.
ونذر حياته من أجل الديمقراطية، وشهد سقوط نظام البشير كما تمنى، لكنه لم ينتظر حلمه بالدولة المدنية.