أذكر أنني قبل الثورة كنت قد انتقدت تحت العنوان أعلاه مقترحا لصلاح قوش مدير جهاز الأمن السابق، نقلته عنه قيادات الحزب الشيوعي التي اجتمع بها، ومؤدى مقترح قوش العجيب كان يتلخص في اتجاه السلطة البائدة لتخصيص الساحة الخضراء لتكون مقرا للأحزاب والتنظيمات السياسية لإقامة مناشطها وندواتها داخلها، وحينها قلت عن هذا المقترح الغريب إنه لا يحيلنا إلى حديقة هايدبارك الشهيرة بلندن التي يوجد بها الركن المسمى (سبيكرز كورنر) (Speakers Corner) وإنما يذكرنا بذلك الهتاف الكوميدي المسرحي لإحدى الزوجات المقهورات، حين تصدق لها زوجها الديكتاتور المتسلط القاهر بيوم واحد فقط في الأسبوع مصرح لها فيه أن تخاطبه وتتحدث معه، بينما تظل طيلة أيام الأسبوع الأخرى (صم بكم) ساكنة مستكينة ومسكينة لا تنبس ببنت شفة، تؤمر فتطيع من سكات، وهكذا ظلت هذه المسكينة تترقب يومها المسموح لها بالحديث فيه بفارغ الصبر، وفي يومها الموعود تصحو باكرا مع أول خيط للفجر وتظل تهتف بفرح وانشراح (الليلة النقة الليلة النقة)، وهكذا عطفا على تعطف السلطات على الأحزاب السياسية بتخصيص مكان محدد لها لإقامة مخاطباتها السياسية أتخيل هتافات قيادات هذه الأحزاب حين يأتي دور أحدها في إقامة ليلته السياسية، إذ لا يعقل أن يقيم ما يربو على مائة حزب وتنظيم وحركة أنشطتها السياسية في يوم واحد، لا بد من تنظيم ذلك بلائحة تنظيمية وجدول مثل جدول الحصص.
الآن ومع هذه الإبداعات التي تجلى فيها شباب الاعتصام أجدني مهموما بالمصير الذي ستؤول إليه بعد فض الاعتصام، هل سيتبدد كل هذا الإبداع وهذه الحيوية وتضيع هباء أم لا بد من صيغة تستديمها بشكل ما وتضمن لهذه الطاقات الاستمرارية والاستدامة، فساحة الاعتصام كما يعلم الكل قد جمعت فأوعت وصارت سودانا مصغرا، ليس للتعبير عن مواقف سياسية، بل أضحت ساحة تمور وتضج بالنشاط الثقافي والفني والاجتماعي والتكافلي، ومختلف ضروب الإبداع. من حلقات أدبية وقراءات شعرية ووصلات موسيقية ومعارض للكتاب والقراءة ومعارض للفنون التشكيلية والرسم والتلوين والتصوير الفوتوغرافي ومخاطبات توعوية وحلقات نقاشات ومثاقفات وتبادل للآراء والأفكار، وتجمعات لتلاوة القرآن وحلقات ذكر صوفي وليالي طرب وغناء وإيقاعات شعبية وتراث شعبي من أركان البلاد الأربعة من الشرق والغرب والشمال والجنوب، وهناك أيضا مساحات للترويح والمؤانسة والضحك والسخرية واسكتشات درامية، وغير ذلك من فعاليات وأنشطة متعددة ومفيدة نخشى أن نكون قد نسينا بعضها، ولكن بقول واحد نجمل القول بأن ميدان الاعتصام في محيط القيادة العامة للجيش، صار هو أفضل وأنسب مكان تغشاه الأسر ويفضله حتى الأطفال الصغار ليعيشوا أجواءه ويستمتعوا بزخمه وحيويته وتنوع إبداعاته، إنها بالفعل ثورة شاملة فكرية واجتماعية وثقافية، وهذا هو المد الثوري الفعلي الذي كان غائبا وتفتقده البلاد، فحرام والله أن ينتهي كل هذا الأبداع ويبقى مجرد ذكرى بعد فض الاعتصام (طبعا بعد التأكد تماما والاطمئنان من تنفيذ كل مطالب الثورة كاملة غير منقوصة)، الرأي عندي هو أن لا ينفض هذا الزخم وهذا الإبداع بعد انفضاض الاعتصام بل يتحول إلى الساحة الخضراء ليصبح هايد بارك السودان.