لم أستطع أن أسيطر على مشاعري من أن تنداح بشكل أقرب إلى البكاء، وقد تملكتني حالة من الحزن وأنا أقف في واحدة من الجزارات في بحري، في انتظار دوري لأخذ حاجتي من لحيمات نصنع منها طعامنا، لكنني لاحظت سيدة بسيطة كلما حان دورها للشراء، تفسح المجال لآخر، وكان واضحاً من هذا التصرف أنها لا تريد أن تشتري في حضور الآخرين لذلك أصررت على أن أراقبها من بعيد في فضول لا أنكره وقد جذبتني لها سمرة رويانة وشلوخ مطارق ناعمة ووجه تكسوه الطيبة والإلفة، لأكتشف أنها تريد شراء )ربع كيلو عضم(، أيوه والله قالتها هكذا بصوت خافت وخاطر مكسور دفعت مقابلها بضع جنيهات وذهبت إلى حال سبيلها، وبالتالي لا بد أن اسأل زي دي في كم يطهو ملاحم بالعضم، لأن شراء اللحوم بالنسبة لهن من الرفاهيات.. زي دي في كم لم تدخل بيته فاكهة، لأنها طعام الأغنياء والمترفين.. زي دي في كم يدخل السوق فقط ليحظى بالفرجة ويعود بخفي “حنين”.. لنقول إن هذه المشاهد واقع مؤلم على الحكومة أن تعترف به وتسعى بدورها سعياً حثيثاً لمحاصرة الغلاء الذي أرهق الأسر وجعلها في حالة تململ وضيق ومعاناة.
صحيح أن الفقر هو حالة إنسانية تاريخية، لكنه يصبح مقبولاً إن كان له ما يبرره، لكن في حالتنا كسودانيين أظنه عيب كبير أن يصبح الفقر حالة ولو استثنائية، وبلادنا زاخرة بكل مقومات النهضة الزراعية والصناعية التي تجعلنا مكتفين حد التخمة، وما يفيض نصدره للآخرين، لكن واضحاً أن الأزمة ليست أزمة إمكانات بقدر ما هي أزمة أفكار وإستراتيجيات، وأزمة إرادة على صناعة تغيير يعدل من الصورة ويضعها في إطارها الصحيح.
وإن كانت الاحتجاجات الأخيرة قد أجبرت الحكومة على الاعتراف بكثير من المطالب، فإنها يجب أن تجعلها ترى بعين البصيرة التحول الكبير الذي أصاب أهل السودان جراء هذا الضغط الاقتصادي الرهيب الذي أجبر هذه السيدة أن تشتري ربع كيلو عضم، سيجعلها تشيل هم الضيف حتى لو كان عزيزاً عاد بعد غربة وشوق، لأن ربع كيلو العضم يا دوب يستر حال أسرتها، لكنه لن يغيض كرماً ومباشرة إلى ما سواها، وبالتالي يرتفع كل صباح سقف الغبن الاجتماعي وتزداد الهوة بين طبقات المجتمع ولن يجد الناس متنفساً سوى الخروج إلى الشارع تعبيراً عن سخطهم وغضبهم ومحاولة للخلاص من الواقع المر، فإن كانت الحكومة جادة كما نسمع على لسان مسؤوليها في أن تحقق الاستقرار وحقن الدم السوداني، فعليها أن تبدأ خطواتها الإصلاحية من مربع الأسواق والسلع التي يتعاطاها المواطن وتشعره أنه محمي من الجشع والطمع بالقانون، وأن توفر له قوته الضروري بأسعار بسيطة وفي متناول يد الأسر البسيطة ومحدودة الدخل، لأن ثورة الجياع تختلف تماماً عن ثورة المطالبين بالحرية والعدالة والمساواة ولا مقارنة بينهما في الإحساس والفعل ورد الفعل والنتائج، اللهم قد بلغت، اللهم فاشهد.
{كلمة عزيزة
أرجو أن لا يكون الحديث عن حوار حقيقي مع الشباب هو مجرد فورة )أندروس( سببها الانفعال المفاجئ بحالة الحراك الشبابي، الحوار يا سادة مهم للحاضر وللمستقبل أيضاً.
{كلمة أعز
اللهم أحمِ بلادنا من الفتن واجمع أهلها على كلمة سواء.