يتشدق الإعلام دائماً بمصطلحات رنانة.. بعضها أصبح معروفاً ومتداولاً بين الناس ومسلماً به.. الجميع الآن يعلم أن السواد الأعظم من السودانيين يقع تماماً )تحت خط الفقر( وربما بمسافة بعيدة جدًا.!!
هذا الخط.. لا مكان له على الخريطة مثل خط الاستواء الذي نتلظى بجواره.. ولا مكان له على أرض الواقع.. لكن يمكنك أن تراه بوضوح في الأسواق والطرقات والمشافي والمدارس والبيوت.. له ملامح تحملها الوجوه البائسة الحزينة.. والأجساد الواهنة المنهكة.. والباعة المتجولون على الطرقات.. والمتسولون المتزايدون كل صباح.. والأطفال المتسربون من مقاعد الدراسة.. والأمهات اللائي يفقدن حياتهن عند الوضوع لعدم وجود رعاية صحية كافية.!
لست اليوم بصدد الحديث عن الفقر ومآلاته وأبعاده وصوره، فجميعكم بإمكانه أن يتحدث عنه حديث العارفين وله معه صولات وجولات وحكايات.. لكنني سأتحدث عن )خط الإنسانية(.. وهو الخط الذي لا نقع تحته ولا فوقه.. لأنه لا وجود له أساساً في واقعنا السوداني المعاصر.!!
فالإنسانية بأبسط صورها تتبدى في العدل والرحمة والاحترام.. وهي القيم الثلاث التي لا يمكنك أن تجزم بتداولها بين الناس في بلادي.. والتي فشلت الحكومات في توفيرها أو تعليمنا إياها أو فرضها قسراً كما يحدث في الكثير من بقاع الدنيا حتى صارت بمرور الأيام سلوكاً أصيلاً للشعوب.!
وستعلم البعد الحقيقي لكلامي هذا حالما قُدر لك أن تعبر مطار الخرطوم لتحط رحالك في مدينة ما قد لا يتجاوز عمرها الأربعين عاماً منذ بدأ يدب فيها العمران!.. لكن لأنهم جعلوا الإنسان أولاً فقد نجحوا في توظيفه كما يجب طائعاً مختاراً وبكل حماس ليبني نهضة عمرانية مدهشة ويؤسس للحياة في أبهى صورها.
هنا.. لدينا وزارة كاملة يتغير اسمها كل حين تعنى بالتنمية البشرية ولا أرى أثراً لمهام حقيبتها الوزارية داخل المرافق الخدمية على الإطلاق!!.. هنا لا وجود للابتسام أو سرعة الأداء أو الإخلاص في العمل بأي مرفق تتعلق به تفاصيل حياتك اليومية، إلا على نحو فردي فقط.. لأن أحدهم كان بفضل ربي )ود ناس( وكان هذا هو أسلوب تربيته وحياته.
أما أن يفرض عليك النظام ضرورة الالتزام بقضاء حوائج الناس بذمة وضمير وإتقان.. فلا تنتظر ذلك في السودان.!!
في الخارج.. تفرض الغرامات على كل صغيرة وكبيرة تمس إنسانيتك حتى ولو لم تكن من مواطني تلك البلاد.. فيكفي أنك في حماها وتدعم اقتصادها.
في الداخل.. يقوم الاقتصاد على أكتافنا.. وتخرج علينا الجهات المعنية كل صباح بجباية جديدة.. وكلما استشرى الفساد في المال العام حكموا علينا بشد الحزام.. ولا زلنا لا نراوح خانة الأنعام لنرتقي لمصاف الإنسانية.!!
وإذا قررت يوماً إجراء معاملة حكومية أو استخراج ورقة رسمية، فاستعد لإهدار يومك والأيام التالية في اللهاث بين المكاتب والموظفين الساخطين..يحدث هذا في العديد من مؤسساتنا. حيث يسيطر الخوف على مشاعرنا وتصرفاتنا حتى وإن كنا أصحاب حق واضح.. فالسلطات هنا لا تفرق بين الناس.. فتمارس سطوتها على الجميع.. ترويعاً، تقريظاً وتهكماً.!!
نفتقر إلى الشعور بالأمان.. لأننا نعلم أننا قد نقع في أية لحظة تحت طائلة العقاب أو الإهانة دون تحرٍّ أو تمحيص.. وبعدها حالما اتضح أنك مظلوم.. فلن يكلف أحدهم نفسه مشقة الاعتذار.!!
ولكن غالبيتنا نساهم بقدر في محو خط الإنسانية من حياتنا.. معظمنا ندور في دائرة مغلقة وكما ندين ندان.. معظمنا لا نجيد فن التعامل الإنساني ونفتقر لثقافة الاعتذار والتسامح والتجرد والإتقان والمسؤولية.!
لذلك سنظل نرزح طويلاً تحت وطأة الظلم والتهاون والاستياء والخوف والرغبة في الفرار أو الهجرة.
الأمر يحتاج إلى وقفة مع النفس.. لنعلمها أبجديات الإنسانية والوطنية وتقوى الله.. فحتى تصبح إنساناً سويًا أرجو ألا تنتظر عربة النفايات لتميط الأذى عن طريقك.. ولا تتوقع من الحكومة أن تلزم أحدهم بصدقة التبسم في وجهك.. فالحكومات منشغلة بما هو أكبر من إنسانيتنا.!!
تلويح:
تعلّم كيف تصبح إنساناً لتحافظ على إنسانية الآخرين.. فهذه المادة غير مدرجة في المقررات الدراسية الخاوية.!!