أخيراً انطوت صفحة الإنقاذ وأصبحت في ذمة التاريخ لها ما لها وعليها ما عليها، غربت شمس الإسلاميين وبزغ فجر اليسار في السودان وبدأت فترة انتقال لمدة ثلاث سنوات تشارك فيها المؤسسة العسكرية من خلال مجلس سيادي بدون سلطات تنفيذية على أمل إجراء انتخابات عامة بعد انقضاء الفترة الانتقالية لتؤول السلطة لمن يختاره الشعب السوداني الذي ظل يترقب ميلاد الفترة الانتقالية بالصبر والقلق والخوف من إجهاض ثورته التي روي زرعها بالدم والدموع وشيد الشباب الثائر طرقاً للدولة المدنية.
شهدت قاعة الصداقة أمس احتفالية امتدت لساعات طويلة جداً دون مبرر لذلك، ونال الرهق والتعب من ضيوف البلاد الذين تقاطروا من كل الأقطار الصديقة والشقيقة ليشهدوا ميلاد السودان الجديد، ومرة أخرى يخذل العرب السودانيين ويجدون القادة الأفارقة أقرب إليهم مودة ومحبة وحرصاً وإخاء صادقاً وحسن جوار، جاء سلفاكير ميارديت كبير البيت السوداني الوسيع، وجاء رئيس وزراء إثيوبيا والرئيس الكيني ورئيس أفريقيا الوسطى، والرئيس التشادي، غاب ملوك العرب وشيوخهم وغاب حتى محور السعودية ــ الإمارات ـــ مصر الذين يدعون بأنهم كفلاء السودان بعد ذهاب البشير، ومثّـل مصر رئيس وزرائها، ومثلت السعودية والإمارات بوزراء الخارجية، ولم يحضر المحمدان بن سلمان أو بن راشد، وليس غريباً على العرب هذه المواقف السلبية بينما شكل الأفارقة وجوداً في الساحة السودانية منذ اتفاقية ١٩٧٢ وحتى نيفاشا، والاتفاق الأخير بين الشريكين العسكري وقوى الحرية والتغير، ولم تُبدِ الدول العربية اهتماماً بالشأن السوداني، وحتى مصر أقرب العرب للسودان دخلت في خط التسوية، وعيناها على ما حققته إثيوبيا من نجاحات
الاحتفالات بالتوقيع على الوثيقة الدستورية والاتفاق السياسي لم تغطِّ أفراحها كل أرجاء السودان، فدارفور حزينة على تجاوز الاتفاق لحركات التمرد الثلاث، وقد فشلت النخب المركزية في استيعاب مطلوبات السلام ووقف العرب ولم تسع قوى الحرية والتغيير بجدية ورغبة حقيقية في التواصل مع مناوي وجبريل وعبد الواحد، لذلك خرجت معسكرات النازحين التي يسيطر عليها عبد الواحد محمد نور ورفعت لافتات الاحتجاج والرفض لاحتفالية قاعة الصداقة واعتبرتها شأناً يخص غيرهم.
بينما انكفأت كادقلي علي نفسها حزينة وقد تجاهلت نخب الخرطوم المركزية مخاطبة قضية جبال النوبة، ولم تسع قوى الحرية والتغيير لمجرد الإصغاء لعبد العزيز الحلو لمعرفة الأسباب التي دعته للممانعة ورفض الجلوس مع حكومة غير مدنية.
وشهدت قاعة الصداقة مخاطبات عديدة لكبار الزوار ولكن كان لافتاً كلمة ممثل الاتحاد الأفريقي موسي فكي الذي كان قريباً من السودانيين، بينما كاد الموريتاني ود لباد أن يهتف مع الثوار مدنياوو.
وشهدت القاعة تعزيزات أمنية غير مسبوقة وإغلاق للطرق المؤدية لقاعة الصداقة، وتم حرمان الصحافيين من المشاركة حتى من خارج القاعة وكذلك رفضت السلطات الأمنية للمواطنين حتى الاقتراب من القاعة.
انقضت مرحلة، واليوم يعلن رسمياً عن أسماء أعضاء المجلس السيادي، وإذا كان المكون العسكري قد اختار ممثليه، فإن قوى الحرية والتغيير قد أخفقت حتى مساء أمس في لملمة أطرافها بعد واقعة إبعاد محمد الحسن التعايشي القيادي في حزب الأمة، وهي واقعة لها ظلالها العميقة على حزب الأمة في دارفور ووسط القبائل العربية، وقد خسرت كل الأحزاب القبائل غير العربية لصالح الحركات المسلحة، كما أن الحادثة أعادت للأذهان ما ظل يجده أبناء الخليفة عبد الله التعايشي من إقصاء متعمد من آل المهدي، مما دفع أحد أحفاد الخليفة للالتحاق بحركة تحرير السودان برئاسة مناوي.
فهل واقعة إبعاد التعايشي من المجلس السيادي تمت بإيعاز من المهدي وابنته المنصورة؟ أم لأسباب لم يشاءوا الإفصاح عنها.
اليوم تستبين أشياء ويقترب حمدوك من الوصول لمنصب الرجل الأول في السودان بحكم المهام، وتقترب بداية الفترة الانتقالية التي يترقب السودانيون ثمراتها في قادم الشهور والأيام، وقد عادت في الأيام الأخيرة أزمات الخبز والوقود أكثر من ذي قبل في مناخ الفراغ العريض، وبلادنا بلا حكومة منذ نصف العام.