صحيفة كورة سودانية الإلكترونية

وقفة عند محطة »شخوص في الذاكرة«

9

زاوية غائمة
جعفر عباس
وقفة عند محطة »شخوص في الذاكرة«

‏‏‏‏
لا أحسب أنني تلقيت خلال العامين الماضيين أكثر من أربع رسائل الكترونية من قراء حول ما أكتب هنا، ومن ثم فوجئت )وليس تفاجأت( بوصول ثلاث رسائل تتعلق بآخر ثلاث مقالات لي هنا، كان العنوان المشترك بينها »شخوص شاخصة في الذاكرة«؛ في أولاها لعن المُرسل خاشي وقال: تحسب نفسك مانديلا وتكتب لنا عن محطات في حياتك؟ ولكن الأُخريان طيبتا خاطري، فواحدة منها قالت إن تجربتي مع معلمين تركوا أثرا طيبا في حياتي قد تلهم بعض ناشئة المعلمين طريق كسب القلوب، بموازاة شحن العقول بالمعلومات، والثالثة قالت إن اعترافي بجمائل بعض من تلقيت على أيديهم العلم تكريم لعصر كامل كانت فيه المدارس تكمل دور البيت في تنشئة كل جيل، وشخصيا لا أحب عبارة »الزمن الجميل« التي يرددها الكثيرون في ببغاوية مملة في معرض المقارنة بين الماضي والحاضر، فهي نتاج ثقافة تمجيد المراحيم )أي من رحلوا عن الدنيا الى رحمة مولاهم(، وإدمان البكاء على الأطلال وهي ثقافة اتكالية »ترمي الحِمل« على أهل »ماضينا العريق«، وتشاؤمية لا ترى خيرا في الحاضر الذي سيصبح ماضيا، ولبِنة في بنيان المستقبل.
المهم أنني سأمضي في سرد تجربتي من شخصيات عايشتها وأثرت في حياتي بدرجة أو بأخرى سلبا أو إيجابا، على أمل أن يكون فيها درس مستفاد لمن هم أصغر مني سنا، وكما أن هناك أناسا في حياة كل واحد منا أعجبنا بهم واتخذناهم قدوة في هذا المجال أو ذاك، فهناك أناس تركوا آثارا سيئة في نفوسنا ويتعذر محو ذكراهم، ولكن لا طائل من صبّ اللعنات عليهم، فالاحتكاك المتكرر بشخص يعاملنا بقسوة أو جفاء أو جلافة أو غلظة، وبأسلوب منفر، ينبغي أن يعلمنا »كيف لا نكون مثلهم في تعاملنا مع الآخرين«، ويشبه بهذا الى حد كبير تحبيذ إيقاد شمعة بدلا من لعن الظلام.
كشخص جلس على مقاعد الدراسة سبع عشرة سنة، ومارس التدريس سبع سنوات، أعرف أن شخصية المدرس وأسلوبه في التدريس قد يجعلانك تحب أو تكره هذه المادة أو تلك، وفي العالم العربي فإن هناك مادتين يُحدد نحو 90% من طلاب المدارس الموقف منهما حبا أو كرها: الرياضيات واللغة الإنجليزية، وقد تجد كثيرين يقولون »ما أحب الجغرافيا/ التاريخ/ اللغة العربية«، ولكنك تجد أضعافا مضاعفة من هؤلاء يعبرون عن مواقفهم من الرياضيات واللغة الإنجليزية بعبارة من نوع »أعوذ بالله«، وكأنهما من الخبث والخبائث، فاستيعاب المادتين يتطلب الكثير من المجاهدة والمكابدة، فهنا قوانين وقواعد يجب حفظها عن ظهر قلب، وهناك كلمات لا بد من معرفة كيفية كتابتها من دون ان يكون هناك قانون ثابت لتهجئة حروف كلماتها، وإذا كان معلم أيٍ من المادتين فظا فالكره يتحول الى »عداء«.
والمدرس الحاذق ذو الروح التربوية هو من يقدم الدرس الشائك والصعب في لغة جذابة، ويتوقف عند هذه النقطة أو تلك العصية الفهم ليجعلها طريّة سهلة البلع والهضم، ولا يرمي الطالب البطيء الاستيعاب بالغباء والحمورية، وبالمقابل قد يكون هناك مدرس شديد الحذق و»الشطارة«، أي يعرف تلافيف وتجاويف المادة التي يدرسها، ولكن ينقصه الأسلوب السليم لتوصيل تلال وطوفان المعلومات التي يختزنها ويقدمها للطلاب، ويقول الناس عن مثل هذا المدرس إنه »شاطر لنفسه«، والكارثة أن يكون هذا الشاطر عصبيا ويستاء حدّ الغضب المزمجر، لأن الطلاب لا يستوعبون أمورا يعتبرها هو بديهيات، فيلعن أمامهم »اليوم اللي جابني في التدريس وابتلاني بكم«.
وقد ابتلاني الله وابتلى غيري ممن تسلقوا السلالم التعليمية بمدرس واحد أو أكثر كانوا سببا في كرهنا لمواد معينة، أو المدارس وسنين المدارس، ولكن المدرس النشاز أقلية، فالتدريس كما التمريض، مهنة تغرس في العاملين فيها قدرا كبيرا من الأمانة المهنية والاستقامة الأخلاقية وطول البال، وبالتالي فوجود شاة سوداء واحدة في منطقة تعليمية أو مدرسة ما لا ينسحب سلبا على الغالبية الكبيرة، التي تؤدي رسالتها بحسب الأصول المرعية، حتى تلك الغالبية تحزن لأن المقادير ألزمتها بمهنة مغرياتها المادية قليلة، )ولكن بها مكاسب معنوية هائلة تأتي بنجاح العيال(.

قد يعجبك أيضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبولقراءة المزيد