)1(
وأنت في صَالَة المُغادرة تَقف في صَف إجراءات الخُرُوج أمام الميزان، مَن يقف مَعك في الصّف بدلاً من أن يَتَجَاذب مَعَك الحديث في وزن العَفش وبطء الإجراءات ومَواعيد القيام وكُلّ الذي منه، تَجده يسألك )البلد دي ماشّة على وين؟(، فتقول له في سِرّك )ياخي دا وقته؟(، ولكنّك تعذره لأنّه تعوّد على ونسة الصفوف، والأهم من ذلك لأنّك مثله فليس في بالك إلا )البلد دي ماشّة على وين؟(، وبالتالي تتقاسم معه الحديث في المُعاناة فحكاية منه وحكاية منك إلى أن تصل )الكاونتر( وتكمل إجراءاتك فتكتشف أنّ صاحبك الذي سألك يملك من الحكاوى والتصورات أكثر منك بكثير!
)2(
ثُمّ تدخل صَالة المُغادرة النِّهائية، فبدلاً من الحديث عن سَاعة القيام وزمن الرِّحلة، تَجد المُسَافرين يتجاذبون أطراف الحَديث وقَضيتهم الأساسيّة )البَلَد دي ماشّة على وَين؟(.. فكُل واحدٍ منهم يَتَحدّث عَن مُعَانَاتِه في الحُصُول على الدُّولار، وكيف أنّ السُّيولة خَذَلته في الحُصُول على مَا يُريد، وكَيف أنّ حاجته للدولار قَد اُستغلت، ثُمّ يدلف بعد ذلك إلى الحَديث عن الصُّفوف الأُخرى من صَف وقود إلى صف رغيف إلى صف غاز، وقبل أن يصلوا إلى بند الفساد، يُنادي المُنادي بالتّوجُّه للطائرة فيحمل كُلُّ واحدٍ وواحدة حقيبته على كتفه أو كتفها كأنّما يحمل هُمُومه السُّودانية ويرحل بها وهو يتساءل في سرِّه )البلد دي ماشّة على وين(؟!
)3(
بعد الهُبُوط، تدخل المطار وتأخذ في إجراءات الخروج، فبدلاً من يتحدّث من هو إلى جانبك على روعة المطار ودِقّة النظام تجده يلعن في مطار الخرطوم البائس مما جميعه, صالات وحَمّامَات وسير العفش وسُوء المُعاملة، فإذا قُلت له ياخي أنسى الخرطوم شُوية واستمتع بالجمال الذي أمام عَينيك! يجيبك ياخي لو مَا الفساد وسُوء الإدارة نحن مفروض نكون أحسن من النّاس ديل، فنحن الأوفر إمكانيات ونحن الأسبق في التعليم ونحن… ونحن… فتحمد الله أنّه لم يصل مَرحلة الشّرف الباذخ، ثُمّ يختم لكن البلد المَا معروفة )ماشّة على وين( حَطّمتنا وانتهت منّنا.. ويُعلِّق آخر قائلاً: )بالله شوف الصف ماشي سريع كيف؟ مُش زي صُفُوفنا الكتيرة دِيك البتزحف زَحف(!! فتقول في سِرّك: )وتاني جَاب سِيرة الصُّفوف(..!
)4(
تَصل مَكَان إقامتك وتَجد نفسك وَحيداً، فتحمد لله إنك سَوف تنسى )البلد ديك مَاشّة عَلَى وَين؟(.. ولكن قبل أن تأخذ راحتك، يتوافد إليك بني أهلك، فبدلاً من أن يسألك الواحد منهم عن أحوال القرية وأهله وأمه وأبيه، يسألك عن البلد ديك ماشّة على وين؟ ثُمّ يسرف في الحَديث عن أسعار العُملة فتجده أكثر قَلقاً مِنك، ومع أنّه يتقاضى راتبه بالعُملة الصعبة، ويقول إذا الأمور مشت على ما هي عليه الآن، إنّ غربتنا سوف تكون مُؤبّدة، وإن دراهمنا وريالاتنا ليست فيها فائدة لأنّها بتجيب ورق بس.. فتقول له كلامك صاح، فالبلد إذا ما انهارت سوف تقع في رؤوس الجميع )البرّه والجُوّه( فالكل داخل الجك..!
)5(
سُودان اليوم لن تَستطيع الخُرُوج منه مُش لو ركبت طائرة، لو ركبت صاروخ فهو مُتمكِّن فيك.. وكل شرايينك تَحَوّلت إلى صُفُوفٍ.. فبدلاً من تجري فيها الدماء أصبحت تجري فيها المُعاناة و)تبكي يا بلدي الحبيب( وتاني )Cry the beloved country