اليوم العلينا دا، تطاولت صُفُوف الوقود وصُفُوف الخُبز في كل مُدن البلاد وقُراه التي تمدّنت، وهذه الصُّفوف أصبحت من المناظر المألوفة منذ مطلع عام 2018، هل تذكرون ميزانية الركابي الكارثة؟ بعد نجاح الثورة تقاصرت الصُّفُوف بسبب الدعم “السعودي – الإماراتي” المُباشر الذي وصل لثلاثة مليارات دولار، حيث إنها كانت في شكل وقود وقمح ونقد مُباشر لدعم ميزان المَدفُوعَات.. وعلى حسب ما رُشح من أخبارٍ، فإن آخر ما وصل من ذلك الدعم المُباشر (200) ألف طن قمح.. فللدولتين الشقيقتين كل الشكر (فمن لا يشكر الناس لا يشكر الله)، يبدو الآن أنّ هذا الدعم قد وصل إلى نهاياته، ومن هُنا زادت الصُّفُوف طولاً، بيد أنّ الحكومة تقول إن لديها مخزون قمح ووقوداً يكفي البلاد لأكثر من شهر، ولعلّ هذا يُؤكِّد أنّ البلاد (شَغّالة بجاز المصافي)، فالأزمة ستظل تراوح مكانها.
(2)
لِمَا تَقَدّمَ أَعلاه، فإنّ حال البلاد لا يَسر شعباً ولا حكومةً, فإن كانت البلاد قطعت شوطاً مُقدّراً في التغيير السياسي وذلك بقيام الثورة الظافرة، فهذا التغيير حتماً إلى زوالٍ إن لم يتبعه، لا بل يصحبه ويتداخل معه تغييرٌ اقتصاديٌّ، والذي يطمئن أن إمكانَات البلاد ومواردها الاقتصادية أقل ما تُوصف بها أنّها هائلة جداً (بلادي سُهُول.. بلادي حُقُول).. وها هو السيد حمدوك رئيس الوزراء في كُلِّ خُطبه ولقاءاته برصفائه الذين انفتحوا على السُّودان، يقول: نحن لا نُريد هبات ولا مِنحاً ولا قُرُوضاً، بل نُريد تَعاوُناً وعَملاً مُشتركاً يُستثمر في مواردنا، وبالدارجي كدا (نحن ما بنشحد، بل بي حقنا)!! وبلغة الاقتصاد هذه دعوة صريحة للاستثمار في بلادنا.
وقبل حمدوك وبعُقُودٍ بَحّت أصوات حكام السودان التي تُنادي بالاستثمار في السودان، ولكن النتيجة كانت مُخيِّبة للآمال لأسبابٍ تعود إلينا في المقام الأول، إذ أنّ كل سياساتنا وأوضاعنا ومُمارستنا تنفر من الاستثمار، وفي نفس الوقت ابتلانا الله بمُستثمرين مُستهبلين ما خافوا فينا الله، ولكن في النهاية الغلطة غلطتنا (ونحن نتحمّل مصيرها)!!
(3)
بالضرورة أن تكون دعوة السيد حمدوك للاستثمار في السودان مُختلفة، لأن أوضاع البلاد الآن اختلفت، إذ أنّ تغييراً سياسياً هائلاً قد حَدَثَ وكل العالم الحُر أشاد بهذا التغيير، والحرب على الفساد أصبحت مُمكنة لأجواء الشفافية المُتوفّرة، ولكن المُستثمر دون خلق الله ينظر للأمور من زاوية الاستقرار وحركة الأموال.
فوجود التظاهرات والوقفات الاحتجاجية حتى داخل صالات البنوك وفي قلب العاصمة، ثم التظاهرات والإضرابات في مُدن كُبرى مثل نيالا والأبيض وبورتسودان وكلها بتأييد قادة الثورة نفسها، هذا بالإضافة لصُفُوف الوقود والخُبز، فكل هذا كفيلٌ بجعل أيِّ مُستثمرٍ حتى ولو كان محلياً, يتردّد ألف مرّة للاستثمار في السودان، عليه تصبح العلاقة بين الصُّفُوف والتظاهرات والاحتجاجات علاقة جدلية أي مُتداخلة، فإذا أردنا إنهاء الصُّفوف علينا بوقف التظاهرات والاحتجاجات اليوم قبل الغد لكي تهدأ الأوضاع وتعمل الحكومة وتتداعى رؤوس الأموال لتنحسر الصُّفُوف.. إلا فليتظاهر من يتظاهر، فالدنيا حُرية والتظاهرة مَجّانية ولتطُول صُفُوف الخُبز والوقود، وما معروف الجايي شنو وتبكي يا بلدي الحبيب!!