عثمان ميرغني
مُبارَاة المَواكِبَ الجَمَاهِيريّة..!!
أمس شهدت العاصمة السودانية، مُواجهة سياسية نادرة وفريدة.. مُباراة واحدة في مَلعبيْن.. الأول في “الساحة الخضراء” بمدينة الخرطوم، حشدٌ كبيرٌ لمُناصري الحكومة.. والثاني جُمُوع المُتظاهرين من المُعارضة اختاروا مدينة أمدرمان، انطلاقاً من وسط المدينة بمساريْن أحدهما بشارع الأربعين شَتّته الشرطة في حي “بانت”، والثاني بشارع الموردة من جوار بيت الزعيم الأزهري استطاع الوصول إلى المجلس الوطني “البرلمان”.
الحَشد المُناصر للحكومة في “السّاحة الخَضراء” من حَيث العَدد كَانَ كبيراً قياساً بأعداد المُتظاهرين في أمدرمان، لكن الفَارق النَّوعي أنّ الحشد المُناصر للحكومي مَحمولٌ على أكف الراحة، توفّرت له وسائل نقلٍ من مُختلف أنحاء العاصمة بل ومن خارجها، وأذعن كثيرٌ من العاملين في الدولة الاستجابة للتوجيهات بالمُشاركة.. كما أنّه تجمعٌ مُرخّصٌ به رسمياً لا يعلوه دخان القنابل المُسيلة للدموع ولا ترعبه أصوات الطلقات.. بينما تظاهرات المُعارضة المُشاركة فيها اختيار وتمطرها القنابل وتحاصرها السُّلطات وتختنق الهتافات تحت الدخان.
مع ذلك في تقديري أنّ تحول المعركة إلى سياسيّةٍ بامتياز أفضل كثيراً من بقائها في قيد )المُواجهة العنيفة(.
في حشد “الساحة الخضراء” تبارى الخطباء الرسميون، وقطع الرئيس البشير قول كل خطيب بكلمة اتّسمت بالهُدوء والبُعد عن التّوتُّر.. حَوَت لأوّل مرّة إيماءات تُخاطب الشعارات المرفوعة على رايات تظاهرات المُعارضة.. فقال عن مسألة تداول السُّلطة إنّه سيسلِّمها إلى الشباب بشرط أن تتوحّد صُفُوفهم.. وكان البشير قبلها بيومٍ واحدٍ في احتفال سلاح المدفعية بعطبرة في مهرجان الرماية القومي رقم )55(.. قال إنّه لا يَعترض على تدخل الجيش واستلامه السُّلطة، لكنه قال إنّ ثمن ذلك سيكون )كل فأر يخش جحرو(.. وهي إشارة إلى أنّ الجيش لن يَحتمل ما يَدُور في المَلعب السِّياسي، وسَيكون حَاسِماً وصَارِمَاً في ضبطه.
ما لفت الانتباه في خطاب الرئيس البشير، أنّه على نقيض ما أفاض فيه نائبه الأول السابق الأستاذ علي عثمان محمد طه الليلة السّابقة في حواره التلفزيوني مع الأستاذ الطاهر حسن التوم بفضائية “سودانية 24”.. فبينما كان علي عثمان مُتوتِّراً يسرج خيول الحرب ويلبس لامتها ويُهدِّد بـ)كتائب الظل( التي تربض خلف مُؤسّسات الدولة لتنقض )عند اللزوم( عَلى مَن تراه يُهدِّد حكم حزب المؤتمر الوطني.. فإنّ الرئيس البشير مَشَى خَطوةً في اتجاه أبواب الحوار المؤصدة، في عمد ممددة.. وتحدث عن )تسليم السُّلطة إلى الشباب( رغم كونها عبارة فضفاضة لا تُخضع إلى معيارٍ عملي أو ميقاتٍ زمني.
المشهد الآن واضح المعالم.. المُعارضة في موقع الفعل والحكومة في رد الفعل.. لعبة ضربات الجزاء.. المُعارضة تُمارس “الاستنزاف” المَجّاني بتطويل فترة الاحتجاجات، والحكومة تدفع غالياً ثمناً مالياً ومعنوياً في مُواجهاتها واستعدادها الأمني المُستمر.. بينما أعين الحكومة والمُعارضة معاً تنظران نحو الخارج، تستجليان اتجاه رياح المُجتمع الدولي.. ودول الإقليم قلبها مع المُعارضة ولسانها الصامت مع الحكومة.
بنظرةٍ إلى مُستقبل المشهد؛ من السَّهل على المُعارضة تكرار الدعوة لتظاهرات تختار في كل مرة موقعاً جديداً، فهي لا تُكلِّف سوى بيانٍ في وسائط التواصل الاجتماعي.. يزيد من سُهولتها فترات الاستراحة في “فَاصل ثُمّ نُواصل” بين تظاهرةٍ وأُخرى.. بينما في المُقابل الحكومة مُضطرة للإبقاء على كُلِّ ترتيبات المُواجهة الميدانيّة في أقصى درجات الاستعداد.. وهو أمرٌ مُرهقٌ وباهظ التكاليف.
وطبعاً من الصعوبة تخيُّل أن تكرِّر الحكومة حشدها في السّاحة الخضراء فهو ضخم التكاليف المالية، ويحتاج إلى جُهدٍ تعبوي كبيرٍ.. وأسوأ من ذلك كله..
الحكومة ليس لها ما تَقُوله..!!