ما تزال موازنة العام الجديد تعاني طلق الولادة، رغم أن العام دخل يومه الثاني، اذ ما زال التنازع حول قسمتها محتدما لتستقبل البلاد العام الجديد بلا موازنة، وما من سبب لكل الزيطة والزمبريطة المثارة حول الموازنة الا هذا الفلس الراجل الكلس، فالفلس بمعنى فقر الموارد وقلة المال وسوء الحال وبما له من مهابة وسطوة تذل أعناق الرجال وتجعلها أصغر من سمسمة يقول عنه السودانيون أنه راجلا كلس، وقال فيه شاعر شعبي (الدنيا بتهينك والزمان بيوريك..قِلْ المال يفرقك من بنات واديك(، وهاهو بالفعل قل المال يفرق بين الوزارات والمؤسسات ويعطل اجازة الموازنة، ومشكلة هذه الموازنة لا تنحصر فقط في قلة المال انما أيضا في كيفية توزيعه وقسمته بعدالة، وكالعادة وجدت قسمتها الضيزى اعتراضا واحتجاجا على المفارقة المالية البائنة بين ما هو مخصص للأمن والدفاع والجهات السيادية، وما هو ملقى من فتات للتعليم والصحة اللتان تعانيان أصلا من شح الصرف والتمويل الذي كان من الأسباب الرئيسة في تدني الأداء في كليهما، وبالأخص القطاع الصحي والطبي فى زمان كورونا هذا، بل أن هذا ما تعانيه كل وزارات ومؤسسات القطاع الخدمي عامة، ومن ظلم هذه القسمة المختلة أن أهل الدثور ممن يطلق عليهم (الوزارات والقطاعات الدفاعية والأمنية والسيادية)، حظيوا بالتمويل الأكبر والصرف المعتبر و(قبضوا السمينة) على رأى الساخرين حين يجدون زميلا لهم قد فتح الله عليه بمبلغ محترم يقولون عنه (فلان الليلة قابض السمينة)، وهكذا تقبض هذه الوزارات السيادية ــ والسيادة لله ــ السمينة وتترك للبقية التنازع على (الجلافيط والكدارين)، هذا غير ما يمكن أن تحوزه بعض أو كل هذه القطاعات السيادية من أموال جانبية مجنبة أو صفقات تجارية من شركاتها التي لازالت خارج ولاية وزارة المالية، وللأسف ظلت هذه القسمة المعتلة والمختلة هي السمة التي تسم أداء كل الموازنات عبر السنين بلا أي تغيير ولو طفيف يحسب لصالح الوزارات الخدمية ومؤسسات الدعم الاجتماعي ولجم غلواء الفقر وكبح جموح الأسعار، وإنما دائما ما تأتي القسمة على حسابها لدرجة يمكننا معها القول، ما اقتنت جهة سيادية من مال إلا بما افتقرت به جهة خدمية أو مؤسسة خدمة اجتماعية، ومهما كانت المبررات والأسباب التي تمنح الوزارات السيادية هذه الحظوة المالية إلا أنه لا يعقل أن تصل بها إلى هذه الدرجة من المفارقة والفروق بينها وبين الأخريات اللائي لا يجدن سوى الفتات
.�هذه المفارقة ذكرتني بقسمة الإعرابي الذي حل ضيفا على رجل من أهل الحضر، وكان عند الرجل دجاج كثير وله امرأة وابنان وبنتان، والإعرابي في حالتنا هذه هو وزارات القطاع السيادي.. قال الرجل لزوجـته أشـوي دجـاجة وقـدميها لنا نـتـغـدى بهـا، فـلمـا أحضر الغـداء جلس الجمـيـع، الرجل وامـرأته وابـناه وبنتاه والأعرابي، فـدفـع الرجل للأعرابي بالدجاجة، وقـال له اقـسـمـها بـيـنـنا، قـال الأعرابي لا أحـسـن القـسـمة، فـإن رضـيـتم بـقـسـمتي قسـمت بـيـنكم، قـالوا نرضى بقـسمتك. فأخذ الأعرابي الدجاجة وقطع رأسها ثم ناوله للرجل، وقال الرأس للرئيس، ثم قطع الجناحين وقال والجناحان للابنين، ثم قطع الساقين وقال الساقان للابنتين، ثم قطع المؤخرة وقال العـجز للعجـوز، ثم قال الزور للزائر، فأخذ باقي الدجاجة ثم رفع رأسه إلى السـماء وقال الحـمد لله. وهكذا تحمد وزارات السيادة ربها على الرزق الذي تسوقه اليها وزارة المالية رهبة منها أو رغبة فيها .