احد الاسكتشات القديمة لتيراب الكوميديا ..كانت احداثه تدور داخل حافلة تحمل عددا من الرجال والنساء ..زوجة السائق تتصل عليه لتستاذنه في الذهاب لزيارة والدتها المريضة فيرفض السائق ويدخل في مجادلة علنية مع زوجته عبر (الاسبيكر) يتابعها الركاب ومن ثم ينقسمون فيما بينهم بين مؤيد لموقف السائق ومعارض له ..يصرخ احد الرجال ان الزوجة مؤكد غلطانة ..فتجيبه النساء بانها ما غلطانة ..فيجيب الرجال بانها غلطااانة ..ويحتدم الجدال ..غلطانة ..ما غلطانة ..غلطانة ..ما غلطانة ..حتى يتكلم احد الركاب ويقول (اقعدوا انتوا في غلطانة وما غلطانة ..لما الخور داك يتلقانا).
كل الذين سخروا من امكانيات (حميدتي) ..وتبادلوا النكات حول قدراته ..عليهم ان يصمتوا للحظة ويتابعوا ما يقوم به بكل ثقة فهو لا يضيع وقتا في كسب اراضي جديدة ..وليست له خطوط بألوان معينة ..يمكنه الجلوس مع اي شخص ويتحدث الى اي جمع ..وظل طوال الوقت يخاطب الناس بلغتهم العادية التي يفهمونها ويمنيهم الاماني بتحقيق كل المطالب ..لا غرو فهو يملك الاموال ..والان على قمة الهرم المؤسسي ..شئنا ام ابينا …حتى اشعار آخر ..لاحظوا معي ان الفترة الانتقالية لم تبدأ بعد ..ولا تزال المفاوضات لاتراوح مكانها .. (والجماعة نفسهم طويل والفورة مليون)..
في الوقت الذي ينتظر فيه اعضاء الوفد التفاوضي تحقيق الشروط للعودة لطاولة المفاوضات ..يتجول رئيس المجلس الانتقالي في طول البلاد وعرضها ..يلتقي زعماء العشائر ..والعمد والنظار ..تستمر حملات التجنيد لقوات الدعم السريع ..التي تقدم خدماتها بلا مقابل لافراد الشعب السوادني ..ولا تفوتكم صورة حافلة الركاب التي تحمل لافتة النقل المجاني للمواطنين …وهناك رقم للاتصال المجاني ..والمواطن البسيط (ما بيفرق معه) غياب الميديا ..اذ ان عددا كبيرا من السودانيين ليست لديهم هواتف ذكية ويعتمدون على وسائل الاعلام الرسمية في تلقى الاخبار ..وهذه بدورها لا تدخر وسعا في تلميع من هو على كرسي السلطة.
اذكر ان احدى النساء كانت تأتي الى تحمل اشياء بسيطة للبيع ..نشات بيننا صداقة لطيفة ..اذ انها تملك موهبة جميلة في سرد القصص والحكايات ..في الأيام الاولى للثورة قلت لها ..(تسقط بس) ..اذ بها ترد بانفعال (يقعد بس ..والله البشير دا زيو مافي ..السنة الفاتت جاء حلتنا في عزاء ..قعد مع الناس وشرب الشاي واتونس ..مالو والله زول طيب دفع لينا قروش كمان للمسجد) ..تاملتها طويلا ..قلت لنفسي هؤلاء من خرجت الجموع لاجلهم ..افكارهم في اتجاه آخر .. ..لكنني لم اتردد في النقاش ..قلت لها ( السوادن دا بالمناسبة بلد غني جدا .. بلد فيهو دهب وفيهو بقر وضأن وفيهو اراضي ممكن نزرعها تكفينا وتكفي معانا بلدان تانية ..انتي لو كنت في بلد حكمها نظيف وحكامها مسؤولين امام الله والقانون ..كان دخلتي مدرسة مجاني ..واطفالك كمان يدرسوا مجان ويتعالجوا مجان ..كان ممكن يكون عندك بيت وتركبي مواصلات كويسة وتلبسي لبس كويس ..ما كان حيكون في داعي تطلعي مريومة من المدرسة عشان تشتغل في البيوت ..مش كدا بس ..ما كان الناس نزحوا من بلادهم وجوا الخرطوم عشان علاج ولا تعليم ) ..
تذكرت حديثي معها وانا اتابع اللقاء الجماهيري لحميدتي في منطقة قري ..والحسرة التي انتابت الثوار من الجماهير التي تهتف للعسكرية ..بينما يستمر الجدال وتتعثر المفاوضات واغلب الشعب يعاني الامرين من الانتظار والتوقع ..الحقيقة انني احسست بالتقصير فعلا ..اذ انه يجب علينا (كمتعلمين وولاد مدارس) ..ان نشرح لاهلنا ما الذي نريده عندما نطالب بالمدنية ..لابد من تنسيق ندوات من قبل لجان الحي والشباب الذين دعوا للعصيان ورتبوا للاضراب واستجاب الشعب لهم بصورة كبيرة ..الاستجابة كانت عاطفية في معظمها بعد مقتل الشباب واحتسابهم شهداء .. من المفترض ان تكون الاستجابة الآن استجابة وعي وادراك بالحقوق والمام بمفاهيم الدولة المدنية التي ينعم مواطنوها بالحرية والسلام والعدالة ..الطرح لابد ان يكون بسيطا ومخاطبا احتياجات العامة ..لا احد يرغب في تقعر لغوي ولا مفاهيم رمزية …واخيرا نقول ..تعليق المفاوضات لايعني توقف قطار الثورة ..لابد من العمل على زرع المفاهيم الصحيحة والوصول الى اهلنا في كل ربوع الوطن حتى ولو استدعى الامر سفر اعضاء الحرية والتغيير الى الولايات ..لا نريد ان نجد انفسنا داخل الخور كما حذرنا حكيم تيراب الكوميديا (اقعدوا انتوا في غلطانة وما غلطانة ..لما العسكري داك يلقانا)