لا شك ان مثول مرتكبي جريمة تقويض الدستور والانقلاب على نظام الحكم الديمقراطي بالقوة في 30 يونيو، 1989 أمام العدالة، أمر في غاية الاهمية حتى يجدوا جزاءهم العادل، ويكونوا عبرة لهواة المغامرات العسكرية من السياسيين والعسكريين الطامحين للسلطة تحت مزاعم محاربة الفساد وانقاذ البلاد، بينما الهدف الحقيقي تحقيق الأجندة الخاصة واغتصاب حقوق الشعب وسرقة أمواله لصالح جماعة معينة، مثلما ما حدث طيلة الثلاثين عاما الماضية التي تحولت فيها البلاد الى مملكة خاصة (للكيزان) وشهواتهم وفسادهم، وليتهم حافظوا علي ما وجدوه فيها من بنية تحتية ومشروعات ومؤسسات ناجحة، ولكنهم دمروا كل شيء جميل وسرقوها ومرغوا سمعتها وكرامتها في التراب .. لعنة الله عليهم في الدنيا والآخرة!
* غير أن الاقتصاص لضحايا جرائم دارفور كان يجب ان ينال الاولوية، فهو الأمر الأهم من جميع الجوانب، أولا، من اجل تحقيق العدالة للضحايا والمظلومين الذين يتعدى عددهم مئات الالاف من قتلى ومشردين ولاجئين ونازحين ومفقودين ومواطنين فقدوا كل شيء في تلك الجرائم الوحشية الفظيعة، ولا تزال معاناتهم مستمرة حتى هذه اللحظة !
* ثانيا، أنه يرتبط ارتباطا وثيقا بتحقيق السلام الذى وضعته الوثيقة الدستورية في المادة (7 / 1 ) على رأس أولويات الفترة الانتقالية، وبدون تحقيقه تفقد الفترة الانتقالية، بل يفقد العهد الجديد الذى إستشرفناه بسقوط النظام البائد أي معنى أو قيمة له، وسنظل ندور في فلك الحرب الأهلية وسفك الدماء وعدم الاستقرار والتخلف الى ما لا نهاية!
* كما ان تحقيق العدالة للضحايا هو أحد اهم العوامل التي تقود الى التعجيل برفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب وانفتاحه على العالم وتعاون المؤسسات المالية الدولية مع الحكومة الانتقالية، الأمر الذي يستوجب أحد أمرين:
* إما تسليم المتهمين وعلى رأسهم المخلوع الى المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، الأمر الذي ترفضه السلطة الانتقالية وعلى رأسها مجلس السيادة الذي صرح رئيسه أكثر من مرة وآخرها قبل شهرين في لقائه بقادة الاجهزة الامنية والشرطية على إثر موافقة مجلس الأمن على أرسال بعثة أممية لمساعدة السودان في تنفيذ مهام المرحلة الانتقالية استجابة لطلب الحكومة، رفضهم تسليم المخلوع الى المحكمة، بالإضافة الى تصريحات مماثلة للدكتور حمدوك!
أو محاكمة المخلوع وبقية المتهمين في الخرطوم بالاتفاق مع المحكمة الجنائية الدولية، الذي لا تلوح أي بوادر في الأفق لحدوثه ولم نسمع حتى الآن أو نحس بأي تحركات من الحكومة للاتصال والتفاهم مع المحكمة الجنائية الدولية، أو فتح هذا الملف المهم وتشكيل لجنة للتحقيق في جرائم دارفور، ولا يدري أحد سبب البطء والتثاقل الشديد الذي تتعامل به الحكومة مع هذا الأمر الذي يعتبر أحد أهم مطلوبات تحقيق السلام، وحل القضايا العالقة مع الولايات المتحدة وفتح الباب لرفع اسم السودان من قائمة الارهاب والتعاون مع العالم!
* لقد اصدرت الحكومة بيانا على لسان الناطق الرسمي ووزير الاعلام، عقب تسليم المتهم (علي كوشيب) نفسه الى السلطات في دولة أفريقيا الوسطى التي سلمته الى المحكمة، رحبت فيه بالواقعة وابدت استعدادها للتفاهم مع المحكمة لتسليم بقية المتهمين الموجودين في السودان، ولكن ظل الحال باقيا كما هو منذ سقوط النظام البائد والتصريحات المتواترة من الحكام الجدد برفض تسليم المخلوع وبقية المتهمين الى المحكمة الجنائية الدولية، ولم نسمع حتى بتشكيل لجنة تحقيق وطنية للتحقيق معهم في جرائم دارفور !
* أخشى أن تكون محاكمة المخلوع ومدبري ومنفذي انقلاب يونيو 1989م التي ظهر فيها بكامل اناقته ومظاهر الراحة تتبدى عليه وعلى بقية المتهمين وكأنهم قادمون من فندق سبعة نجوم وليس من سجن، مجرد محاولة اخرى للتحجج بها من تسليمه الى المحكمة الجنائية، خاصة أن كل المؤشرات تدل على ان دفاع المتهمين وعلى رأسه ذيل النظام السابق المحامي (سبدارت) الذي يحب الظهور والشو الإعلامي، سيعمل على تحويل القضية الى محاكمة سياسية لعهد ما قبل الانقلاب، كسبا للوقت وقتلا للقضية التي لا تحتاج الى أي وقت لإثبات التهمة على المتهمين وادانتهم وقطع رقابهم!
* ليس لدى ادنى شك في انه لن يتحقق للسودان في وجود العسكريين على راس السلطة الانتقالية والضعف الشديد للحكومة أي مطلب من مطالب الثورة .. وأخشى أن تكون الثورة نفسها في الطريق الى المقبرة المعدة لها بإتقان شديد !