صحيفة كورة سودانية الإلكترونية

ما علينا.. الفات كلو فارق !!.. 

30

 

اما قبل

الصادق الرزيقي

ما علينا.. الفات كلو فارق !!..

“أ”
بقايا قافلة من سراب الذكريات، تكاد تختفي وراء السحب البعيدة للزمن الماضي الذي هو على الماء نقوش، كما غنى وردي للفيتوري، لكن أوتاد الشجن التي تشد خيمة هذه الذكرى ..لا ترحل في مواكب وقوافل السراب الذي يُسْلمَها لسراب آخر!!
بأقدامها العارية تمشي شمس الظهيرة في طرقات مدينة الفاشر في سبعينيات القرن الماضي، حين تتعامد الشمس على نافوخ المدينة، الأسواق في ضجيجها، واللواري في هديرها وعجاجها، وقهوة البنابر في شبيبتها الزاهرة، وبئر حجر قدو تحفها مجموعة من حمير السقايين على ظهر كل حمار «خرج» ماء «يجلبق» بما فيه، وعجوز في نهايات خريف العمر تحلف بعلي دينار لا تثنيها اعتراضات شيخ سلفي مهيب ألا تحلف إلا بالله.. وسلال البرتقال أب صرة، المنسال كما الماء الهميم من أعالي جبل تنهمر في جنبات السوق عند الباعة الذين يعرضون الخضر والفاكهة على الأرض يكومون البرتقال على اشكال هرمية والطماطم والليمون، مثلما تشهق الآمال الصغيرة في جوف العيون الساهمة.. والمدينة آمنة مطمئة لا تعرف لعلعة الرصاص ولا لغة التخاصم ولا لوثة القبلية التي دهمتها كجائحة مثل الطاعون ..
في زحام السوق إلحاحات الباعة والمشترين، كانت تلتمع من بعيد سارية علم عتيقة من هناك.. من مدرسة الفاشر الأهلية المتوسطة في ذلك الوقت النضير.. يتسامق من أعلى السارية وكأنها تشرئب بعنق طويل ذي أقراط نحو سماء بعيدة، علم البلاد.. كأنه يلامس قرن الشمس في عليائها، مفاخراً بأنه في قلعة للعلم في كبريائها.. ولم تنكسف تلك الصورة من أوساط السنوات السبعين من القرن الماضي.. من تلك البقعة من الفاشر حتى بعد أن هرم الزمان وشابت المدينة وغطى الأفق صهيل خيل السراب الراحلة.
“ب”
كلما كفن كل منا أوراق عمره بآهاته الحرى، ووسّد التراب بعض ذكرياته العزيزة، وجلس يرثي عمره المتسرب كخيط من دخان.. تتأبى على الرحيل وتمانع من أن تذوب شمعة مضيئة من تلك اللحظات النابضة في أغوار الوجدان.
هكذا بدأ صديقنا «حافظ عمر ألفا» يكرع من أقداح ذكرياته، توامضت أمامه السنوات كأنها قطع من بلور متناثرة على خميلة، أو كما قال ترزي خامل الذكر في المدينة “سنوات العمر الزاهية ممتلئة باللمعان مثل حبات الترتر في فساتين نساء السبعينات”.
جلس حافظ.. وعيناه تغوصان في الأفق البعيد .. وقال: «نحن من زمن أروع ما فيه المدارس.. وأنبل ما فيه المعلمون ..”ثم أردف وهو ممتلئ بشجن غريب: «هل أتاك حديث مدرسة الفاشر الأهلية؟”.
وتدفق أمامه شلال نور من صور ومشاهد طازجة، وانفتح ستار.. وفُض غلاف.. على مشهد تلك السنوات من بين 1976 1979م.
“ت”
قال حافظ كأنه صوفي يتعبد في محراب.. شبك يديه ووضعهما تحت ذقنه.. ترفرف فوقه نجيمات بأجنحتهن الخفاقة.. تتطاير ضفائرهن في مسرى تلك الذكريات وهي تعابث كل ريح.
قال: “دخلنا مدرسة الفاشر الأهلية عام 1976م وكانت المرحلة تسمى الثانوي العام، المدرسة عريقة قديمة قدم التاريخ، مع وضع الحرب العالمية الثانية أوزارها عام 1945م، وصمتت المدافع، كان ثلة من وجهاء المدينة وكرام المواطنين يجتمعون لبناء أول مدرسة بعد الأولية في الفاشر وبعد المعهد العلمي، من حر مالهم .. وصلتهم تبرعات ودعم «700» من مؤتمر الخريجين العام، الأب الشرعي للحركة الوطنية ضد المستعمر الإنجليزي.. وتبرع كل من بابكر كرم الله شيخ سوق الفاشر وعلي كاكوم وعبد القادر أب سم وعوض دفع الله والتيجاني محمدي أحمد وغيرهم خلق كثير من أهل المدينة، وقدم توفيق توتنجي وقرقوري مماكوس وبتي مرشيل وحبيب شاشاي وهم من الشوام والأغاريق من سكان المدينة تبرعاتهم، مما أخجل المستر أنجلسون وزوجته من الإدارة الاستعمارية وتبرعوا من دخلهم الشخصي.. فأنشئت هذه المدرسة التي بنيت على النمط الإنجليزي القديم وهو خليط من الطراز الفيكتوري العريق مطعم برؤية هندسية تناسب البيئة والمناخ في السودان.. سقف عالٍ مخروطي الشكل من الزنك وحيطان من الطوب سميكة وأعمدة في الممرات وأبواب ونوافذ من الزجاج.. إطارات حديدية متينة، تتكون المدرسة من مبنى للفصول ومكاتب على شكل حرف الإل الإنجليزي تفتح على ميدان الطابور الذي تتوسطه منصة عالية تنتصب فيها سارية.. وعلى الجانبين المعمل ومخزن الكتب ومواقع أزيار وجرار الماء.. وتفتح المدرسة على سوق الفاشر حيث النساء يبعن الخضر والفول السوداني المقلي والمركب والدوم والتبش والفول أبونقوي والهالوك والبامبي والبطاطس المسلوقة والجقجق والتسالي والعنكوليب وغيرها من التفاتيف “.
«ث»
يقول حافظ.. وهنا مربط الفرس: «عندما كنا نسابق للمدرسة صباحاً ونحن في عجلة من أمرنا تسبقنا لهفتنا ولهاثنا، نرتدي القمصان البيضاء وأردية الكاكي القصيرة، تبدو المدرسة مثل مغنطيس ضخم يجذب تلك اللحظة التلاميذ من كل اتجاه حتى يتجمعوا في ساحة الطابور … وكان لي قميص من الكتان الأبيض اشتراه لي شقيقي الأكبر من محلات سلوى بوتيك على ياقته بالداخل شعار الشركة وهو عبارة عن حصانين ذهبيين، بينما لمعت في معصمي ساعة سيكو فايف جديدة.. ولا ينافسني في لبس الساعات إلا ثلاثة طلاب فقط يمتلكون ساعات يد من ماركة أب سمكات وجوفيال وريكو.
عندما نصطف في الطابور صفين متوازيين لكل فصل وتهدأ جلبة ومشاغبات التلاميذ وكنت «ألفة» الطابور يقف المعلمون في مكان بارز ويتقدم أستاذ الطابور اليومي ويقف بجانبي.. وتوزع الخطابات الواردة بالبريد وهي تحمل الطوابع البريدية العجيبة .. كان المشهد كله يتغير وكأن خفقان القلوب يتوقف أو الزمن كله يتوقف .. عندما يطل في مصطبة مكتبه عبر الممر ويقف في مواجهة الطابور .. وكأنه إمبراطور من عصر سحيق الأستاذ الكبير أحمد محمد الخاتم مدير المدرسة في تلك السنوات.. وكأن الدنيا كلها ترهف السمع وكل أذن تصيخ وحتى حفيف الأشجار يسكن .. وتختفي في مسمع ذلك المشهد الأصوات القادمة من «لب» السوق.. ويتلاشى نهيق الحمير المتزاحمة حول بئر حجر قدو!!”.
“ج”
ويواصل حافظ: «الأستاذ أحمد محمد الخاتم عثمان أب شنب .. في متوسط العمر يومها، وهو من قدامى معلمي المدارس المتوسطة، من أهالي أم درمان وينتمي لقبيلة الكواهلة المعروفة.. لم يكن بائن الطول وأميل إلى القصر، له قامة ممتلئة فهو ذو جسم رياضي متماسك، وله شارب كث غطى فمه، ولذلك سمي أب شنب، ألثغ في لسانه، صارم القسمات وبسيط التعامل في غير إخلال بهيبته، أنيق الملبس يتردي عادة بناطلين بأقمصة محددة الألوان، وينتعل شبطاً من الجلد على قدميه ويظهر من جيب بنطاله الأيسر منديل مخطط، وفي الجيب الآخر يحرص على حمل الطبشور معه.
لأستاذ الخاتم ذاكرة فوتغرافية، فهو يحفظ كل أسماء تلاميذ المدرسة وهي ذات نهرين، يتابع سير اليوم الدراسي بحرص عجيب ويضبط الأداء اليومي بدقة يخشاه حتى المعلمين.. لا يسمح بأن تكون هناك حصة في أي فصل بلا معلم وإن غاب عنها المدرس لظرف من الظروف القاهرة فهو يدرس أية مادة.. فيه جانب إنساني يعطي قيمة المعلم الحقيقية فهو يعلم أية مشكلة لأي تلميذ ويسعى لحلها كأب حنون، ويتعامل مع كل تلميذ حسب طباعه ويعرف الطالب المشاغب والمشاكس والمثابر والهادئ والمتسيب والمهمل ويتعامل مع كل على طريقته، له إلمام بكل الحياة العامة في المدرسة ويشارك في النشاط الرياضي والثقافي والجمعية الأدبية ودوري الفصول في كرة القدم والجمباز، ويتابع بدقة وتفانٍ مذهل نشاط الجمعيات الأكاديمية مثل جمعية اللغة الإنجليزية والعلوم والتاريخ والجغرافيا.. لا نعرف أن تلميذاً استطاع من الرهبة أن يدخل مكتبه إلا قليلاً فله مكتب منظم للغاية، على طاولة مكتبه الخضراء العريقة هناك ملفات وأدوات ودفاتر وأدوات مكتبية متنوعة وجرس يدوي دائري الشكل يضغط عليه لمناداة الفراش والخفير والساعي، وعلى الحائط علقت ساعة ضخمة علاماتها هي الأعداد الرومانية القديمة.. وعلى جانبي المكتب كراسي الخيزران المنسوجة وكراسي جلوس ضخمة ذات لون أقرب للأخضر عليها مساند منجدة من القطن.. وطاولات صغيرة وضعت أمام الكراسي.
كان الأستاذ الخاتم الأنموذج الذي لا تمحى ملامحه للمعلم المربي الذي يغرس في النفوس فضائل وقيم الحياة الراقية، فقد كان حريصاً للغاية في كل أحاديثه في الطابور على أن نتعلم ويحدث عن فضل التعليم وأهميته في تغيير الحياة وبناء المستقبل.. وحتى هذه اللحظة كأنني أراه في الممرات والفرندات والمصطبة العالية أمام مكتبه”.
“ح”
ويدلق حافظ كل ما عنده عن المدرسة: “كان المعلمون في تلك الفترة يأتون من كل بقاع السودان.. هم من أفرغوا في دواخلنا وأفئدتنا حب الوطن ووحدته وقوميته.. فاللغة العربية درسنا لها أستاذ قادم من أقصى الشرق وهو الأستاذ عمر محمد عمر أب درش من البجا فصيح اللسان غزير العلم، ومن شمال السودان درسنا مادة العلوم على الأستاذ عباس سلطان كيجاب شقيق السباح العالمي كيجاب، والرياضيات كان أستاذها أحمد مصطفى أمان من مدينة الأبيض الذي علمنا كيف نعد الجرائد الحائطية المصورة وهي قصاصات من مجلات العربي والحوادث والصياد وآخر ساعة وأكتوبر والمصور وبناء الصين والصين المصورة وصباح الخير وروز اليوسف والشبكة.. كما درسنا الرياضيات على الأستاذ محمد آدم عبد الكريم من أهالي الفاشر، ومن الدبيبات بجنوب كردفان درسنا التاريخ على يد أستاذنا خليفة محمد بابكر، ودرسنا اللغة الإنجليزية على يد الأستاذ الكبير حسين محمد حامد النحلة من أبناء شمال دارفور وكان مجيداً في مادته ولاعب كرة قدم مشهور بنادي مريخ الفاشر، ويجيد التمثيل خاصة عندما يقرأ لنا قصص الأدب الإنجليزي ويحاكي الشخصيات في الروايات والمسرحيات والقصص، ودرسنا المواد الأدبية على الأستاذ محمد سيد أحمد الغول من أبناء أم درمان، ومادة العلوم على يد المعلم الكبير عبد الله سر الختم، والجغرافيا على الأستاذ التيجاني صالح أبو اليمن، والرياضيات على الأستاذ الطيب صالح أبو اليمن .. لكن لا أنسى أبداً الأستاذ الكبير مولانا مصطفى منقة وهو معلم التربية الإسلامية واللغة العربية الذي كان ما أن ندخل مكتب المعلمين حتى يغلق الباب ويلقي علينا أسئلة في الإعراب من آيات القرآن الكريم، وهو خريج المعهد العلمي ومن شيوخ الطريقة التجانية”.
“خ”
تطفر دمعة ساخنة من خد المدينة وحافظ يحكي: «كان بعض الطلاب يأتون من منازلهم مثل أبناء العاملين بعربة كومر حكومية تسمى السفينة تتبع للمدرسة، كنت ألفة الفصل والطابور.. أحمل الطباشير وأمسح السبورة بـ «البشاورة» وأقوم بالتمام اليومي.. وأنا أتجول وسط الفصل مزهواً بجزمتي الكموش التي تم شراؤها من محلات باتا بسوق الفاشر وقميصي المقوص في جانبيه ينتفخ من زهوي بمهمتي المقدسة.. ومن النوافذ نرى الفراشين يعدون وجبات العون الغذائي السردين والجبنة الرومية والفاصوليا واللبن المجفف.. وأستاذ مختار عبد الله يشرف على كل صغيرة وكبيرة من وجبة التلاميذ.. وهذا الأستاذ هو الذي جعلنا نعرف العالم في حصص الجغرافيا.. ويرن في أذني حتى اللحظة صوته المدوي يقول “صحراء كلهاري.. الربع الخالي.. البحيرات الخمس.. تنجانيقا ..الأمزون”.
ثم أنني على حافة هذه الذكرى.. في نهاية اليوم الدراسي أسمع أصوات البعض في سوق الفاشر الكبير في نهاية اليوم والتلاميذ يملأون الطرقات يتصايحون “ناس الصين الشعبية طلعوا”.. “أين من عيني هاتيك المجالي”… ويصمت حافظ عمر ألفا.

قد يعجبك أيضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبولقراءة المزيد